منذ أكثر من عقد، تعيش المحافظات المحررة والجنوبية تحديدًا تحت وطأة ظروف اقتصادية كارثية، تفاقمت فيها المعاناة وازدادت معها الفجوة بين الشعب والمسؤولين،في حين يتنقل المواطن العادي بين أزمات الكهرباء والماء وانعدام الخدمات الأساسية، يعيش بعض المسؤولين في بذخ لم يعرف له هذا الوطن مثيلًا،بين القصور الفخمة والسيارات الفارهة، وبين المواطن الذي يقضي يومه في البحث عن رغيف خبز، تظهر صورة بائسة لدولة أصبحت فيها السلطة وسيلة للثراء الشخصي، وليست أمانة لخدمة الناس.
الحقيقة الحديث عن الفساد أصبح جزءًا من يومياتنا، لكنه في الوقت نفسه حديث عقيم،الجميع يتحدث عن فساد ينهش في جسد الدولة، لكنه يظل كائنًا مجهولًا بلا ملامح ولا عنوان،تساءلت طويلاً: لماذا لا نملك الجرأة لتغيير قواعد اللعبة،لماذا لا نحطم الحواجز التي جعلت السلطة حكرًا على نخبة ضيقة، تتوارث المناصب كأنها ملكية خاصة.
ما أطرحه هنا ليس مجرد فكرة ساخرة، بل اقتراح عميق يلامس جوهر العدالة الاجتماعية،لماذا لا نجرب أن يتولى كل مواطن كفء منصبًا حكوميًا لمدة عام واحد،بهذه الطريقة، يتحقق نوع من التوازن، وتُتاح الفرصة للجميع لتجربة المسؤولية عن قرب،إذا كان المنصب اليوم مغلقًا أمام معظم الشعب، فهذه الفكرة تجعل الكرسي متاحًا لكل مواطن، ليكون شريكًا في بناء الدولة، أو حتى شريكًا في فهم أسباب فشلها.
تخيل كيف ستكون الأمور عندما يعلم كل شخص أنه سيجلس يومًا ما على كرسي المسؤولية،حينها، لن يكون هناك من يُلقي اللوم على “الآخر”، لأن هذا الآخر سيكون هو نفسه،سيعرف المواطن الذي اعتاد الانتقاد من موقعه الهامشي كيف تُدار الأمور في المكاتب، وكيف تُتخذ القرارات، وأين تُهدر الأموال. سيعرف المواطن البسيط، الذي لم يحلم يومًا بمنصب حكومي، أن الكرسي ليس سوى أداة للعمل، وليس بوابة للترف والفساد.
بهذه الطريقة، لن نحتاج للبحث عن الفاسد؛ لأنه ببساطة سيظهر أمام الجميع. الفساد اليوم يختبئ وراء قلة تحتكر السلطة، أما عندما يتناوب الشعب على الكرسي، فلن يبقى شيء خفيًا،المواطن الذي يجرب المسؤولية سيرى بعينيه كم الأموال التي تُهدر، وكيف تُنفذ المشاريع الوهمية، ومن يستفيد فعلًا من دعم التحالف الذي لم يصل منه شيء إلى جيب المواطن.
هذا الاقتراح ليس عبثيًا، بل يعكس شوقًا عميقًا للعدالة،تخيل أن يتحول المنصب من امتياز دائم إلى فرصة مؤقتة، يتناوب عليها الجميع،تخيل كيف ستصبح إدارة الدولة أكثر شفافية عندما يعلم كل مسؤول أن العام القادم سيعود فيه مواطنًا عاديًا، يُحاسب على أفعاله من قبل من سيأتي بعده.
إلى المسؤول الذي يعيش اليوم في ترف بعيدًا عن معاناة الناس، أسألك: هل فكرت يومًا أن المنصب الذي تشغله الآن سيصبح يومًا في يد غيرك،كيف ستواجه التاريخ عندما تُكشف كل الأوراق،كيف ستبرر قصرك الفخم وسيارتك الفارهة أمام طفل لم يجد وجبته اليومية.
الشعب الذي صبر كثيرًا على الفساد قد لا يصبر أكثر،وإن لم تتحرك ضمائر المسؤولين لإصلاح الأوضاع، فإن هذا الشعب من حقه أن يطالب بحقه في الكرسي، ولو مؤقتًا،كل مواطن يجب أن يُعطى الفرصة ليعرف كيف تُدار دولته، وكيف يمكن إصلاحها.
لا عذر لنا إن بقينا صامتين،الفساد لم يصبح مشكلة مستعصية إلا لأننا سمحنا له بأن يتجذر،وإن لم نتحرك الآن، فإننا سنكون جزءًا من هذا الفساد، ليس كفاسدين، بل كمتواطئين بالصمت،ربما يكون “كرسي لكل مواطن” فكرة مجنونة، لكنها تحمل في عمقها نداءً للعدالة والمساواة،المنصب أمانة، وإن عجز المسؤولون عن حملها، فدعوا الشعب يجرب،ربما يكون في الشعب من يستطيع أن ينقذ هذا الوطن.