في مديرية الحصين بمحافظة الضالع، تقف قرية خوبر كلوحة طبيعية وسط الوديان، مرتدية ثوبها الأخضر المصنوع من أشجار السدر الكثيفة التي تكسو ربوتها العالية. من بعيد، تبدو كالقلعة البيضاء بتفاصيلها الفريدة، تتزين بقباب مسجدها التاريخي الذي يحتضن حلقات العلم منذ مئات السنين. في فصل الخريف، حين تنضج ثمار السدر، تحيط بها خميلة صفراء، فتبدو وكأنها جوهرة مطوقة بحلقة ذهبية.
حاملةً إرثًا حضاريًا وثقافيًا يعكس الروح المحلية الأصيلة، كانت قرية خوبر مركزًا للعلم والقضاء الشرعي في المنطقة، حيث لجأ إليها الباحثون عن المعرفة والعدل. خوبر الخصبة زراعيًا التي لا تزال تحتفظ بجمالها الطبيعي الفريد وتراثها المعماري الأصيل، الذي يروي حكايات الماضي بلسان الحجر والطين، تواجه اليوم إرثًا من الإهمال والتحديات، حيث طمست عوامل الطبيعة والحروب جزءًا من هويتها.
رغم هذا الإرث العظيم، تواجه خوبر تحديات عديدة تهدد هويتها التاريخية، أبرزها الإهمال والتهميش من قبل الجهات المعنية. تعاني القرية من التغيرات المناخية وتداعيات الحروب، بالإضافة إلى زحف العمران الحديث الذي طمس جزءًا من طابعها التقليدي. ومع ذلك، لم تفقد خوبر الأمل، حيث يبذل أهلها والمؤرخون جهودًا مستمرة للحفاظ على هذا التراث الفريد للأجيال القادمة.
هذا التقرير يسعى لتسليط الضوء على أبرز معالم قرية خوبر التاريخية، التحديات التي تواجهها، والجهود المبذولة لحمايتها. كما يقدم رؤية شاملة للحلول الممكنة التي يمكن من خلالها تعزيز مكانة القرية كجزء لا يتجزأ من التراث الثقافي لجنوب اليمن.
الطراز المعماري
المتجول في قرية خوبر يرى جمال طراز معمارها القديم. خلال زيارتنا لها قبل أيام، رافقتنا نسرين أحمد، من بنات القرية، التي حدثتنا عن الطراز المعماري للقرية. وقالت إن النمط المعماري في مساكن قرية خوبر ينقسم على قسمين:
القسم الأول: هو تلك المساكن الحجرية التي يصل ارتفاعها إلى ثلاثة أو أربعة أدوار، والتي استخدمت الحجارة السوداء شديدة الصلابة في تشييدها. كانت الأدوار السفلى من هذه المساكن تُستخدم كإسطبلات للماشية ومخازن للحبوب. ويوجد في الدور الأول ما يسمى “المطحنة”، التي كان يُطحن فيها الحبوب قديمًا.
الأدوار العليا كانت مخصصة للسكن والنوم وغرف الجلوس. وغالبًا ما تكون غرفة الطبخ وإعداد الطعام غرفة ملحقة في سطح المبنى. كانت هذه المساكن مزودة ببوابة خشبية متينة، ولم تكن هذه الأدوار تخلو من المدافن الأرضية التي كانت تُستخدم لحفظ المحاصيل النباتية المختلفة.
القسم الآخر من المباني، هو تلك المساكن التي تم تشييدها من الطين المخلوط بألياف الحيوانات وأوراق شجر الأثل التي تُعجن بشدة، ثم يتم البناء بواسطتها. كانت هذه المباني الطينية تتكون من طابق أو طابقين. وكانت بيوت وزرائب المواشي تُبنى خارج هذه البيوت، خاصةً ذات الطابق الواحد. وأهم ما يميز هذه البيوت الطينية عن البيوت الحجرية هو انخفاض أسقفها، وقدرتها على تنظيم الحرارة والدفء لسكانها بشكل أفضل.
تحتفظ هذه البيوت بقيمة تاريخية نظرًا لعمرها الذي يتجاوز 100 عامً وفقًا للسكان. وما تزال العديد من الأسر تقطنها رغم مخاطر سقوطها أو انهدامها فوقهم.
وعلى تلة مرتفعة وسط وادي خوبر، يقع جامع خوبر الأثري القديم. أحد شيوخ القرية المسنين قال لمركز سوث24 إن المسجد قديم ولا يعرف بالتحديد متى تم بناؤه، لكنه على الأرجح يتجاوز 200 عامًا. وأشار إلى أن المسجد يعد من أقدم المساجد الإسلامية في المنطقة، وقد عرف بأدواره ضمن حلقات التعليم والفقه والعلوم الإسلامية.
المكانة التاريخية والسكان
يرى الباحث المهتم بالتاريخ والأنساب والوثائق والمخطوطات، منصور مطنوش، أن منطقة خوبر تُعد واحدة من المحطات التاريخية البارزة في الضالع، وقد ارتبطت بأسر وقبائل عريقة تركت بصمة واضحة على المشهد الثقافي والاجتماعي.
وقال لمركز سوث24 إن من أبرز هذه الأسر آل باعباد، الذين قدموا إلى خوبر من منطقة غرفة باعباد في سيئون خلال القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر ميلادي)، وفقًا للوثائق التي تحتفظ بها العائلة. وقد كانت أسرة آل باعباد ذات دور ريادي في نشر التعليم والعلوم الدينية، ما جعل منطقة خوبر مقصدًا لطلاب العلم من مختلف أرجاء اليمن. وتميز أفراد الأسرة في مجالات الفقه والقضاء.
اندثار
عوامل طبيعية وأخرى بشرية تهدد إرث خوبر التاريخي من مباني ومسجد، في ظل إهمال كبير من الجهات الرسمية المتخصصة في الدولة. كان للحروب ضد جنوب اليمن الدور الأبرز في تهديد قرية خوبر، كما يقول الناشط الاجتماعي محمود الفقيه لمركز سوث24.
وأشار الفقيه إلى أن القرية “تعرضت للاندثار أولاً بسبب الحرب عام 1994، حيث تم استهدافها بعدة صواريخ كاتيوشا، وأيضًا بالمدفعية من قبل القوات الشمالية. وهو الأمر الذي تكرر في حرب 2015 عندما قصفت قوات الحوثيين القرية والمناطق الأخرى بمختلف الأسلحة”. ولفت إلى حروب أقدم مثل حرب 1972 وحرب 1979بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي سابقًا، فضلًا عن مرحلة الاستعمار البريطاني.
ويذكر مدير الآثار والمتاحف في محافظة الضالع فضل محمود عوامل أخرى أسهمت في اندثار وشيك لمعالم وإرث قرية خوبر، من بينها العوامل الطبيعية كالأمطار والرياح. بالإضافة للزحف العمراني الحديث الذي يطمس المنازل القديمة ويقيم على أنقاضها البيوت الجديدة من الأسمنت والخرسانة.
ويقر المسؤول المحلي أن “هذا الاندثار المتعمد الذي تعرضت له القرية يعود إلى غياب الاهتمام من الجهات المعنية”. وقال لمركز سوث24: “لقد ناشدنا كل الجهات من المحافظ إلى رئيس هيئة الآثار في البلد، والمنظمات الدولية، ومنها منظمة اليونسكو، لكن للأسف لم يحركوا ساكنًا”.
وأردف: “مكتب الآثار فقير ويعاني من غياب الميزانية والإيرادات. كما أن الأيدي التخريبية تساهم في تدمير المواقع الأثرية والمعالم التاريخية، حيث يقوم البعض باستخراج القطع الأثرية وبيعها للتجار أو للخارج”.
تحركات مطلوبة
للحفاظ على المعالم الأثرية في قرية خوبر، يُوصى الخبير الأثري أحمد الرباكي بإعداد سجل شامل يوثق تفاصيل هذه المعالم، بما يشمل الخرائط، الصور، والأوصاف التاريخية.
وقال لمركز سوث24: “يتم ذلك بالتعاون بين الهيئة العامة للآثار والمتاحف وأفراد المجتمع المحلي. يُمكن تعزيز هذا الجهد باستخدام التقنيات الحديثة مثل التصوير الجوي والمسح ثلاثي الأبعاد لإنشاء نماذج رقمية دقيقة للمواقع. كما يجب إشراك المؤسسات الأكاديمية مثل جامعة لحج وجامعة عدن لإجراء دراسات متعمقة حول تاريخ المنطقة وأهميتها الثقافية”.
ودعا الرباكي إلى إشراك المجتمع المحلي في جهود الحفاظ على التراث من خلال حملات توعوية تُبرز أهمية التراث الثقافي كجزء من الهوية، وتدريب السكان على أساليب الحفاظ وصيانة المواقع الأثرية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المهتمة بالتاريخ والآثار.
كما اقترح تنظيم فعاليات وندوات تُروج للسياحة الثقافية وتعزز ارتباط المجتمع بالموقع. يمكن ربط قرية خوبر بالمناطق المجاورة التي تشترك معها في الإرث الثقافي مثل خلة والحصين، وإنشاء موسم ثقافي يشمل المواقع المتجاورة.
وطالب الرباكي بإدراج المواقع الأثرية في خوبر ضمن قوائم التراث الوطني لضمان حمايتها بموجب القانون، بالتنسيق مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف والهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية. وتطبيق قوانين صارمة لمنع الاعتداء أو التعدي على المواقع الأثرية، مع فرض عقوبات رادعة للمخالفين.
وأكد الباحث على ضرورة إجراء أعمال ترميم دورية باستخدام مواد وأساليب تتناسب مع الطراز المعماري والتاريخي للموقع. والتعاقد مع خبراء متخصصين في الترميم الأثري لتجنب أي أضرار قد تحدث نتيجة استخدام أساليب غير صحيحة.
وقال إن التعاون مع المنظمات الدولية مثل اليونسكو ومؤسسات الحفاظ على التراث أمر مهم للحصول على دعم مادي وفني. بالإضافة لاستقطاب تمويل محلي ودولي للمشاريع التي تهدف إلى حماية وتطوير الموقع.
وأشار إلى أهمية استخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية للترويج لأهمية قرية خوبر تاريخيًا. وإنتاج أفلام وثائقية قصيرة وبرامج تلفزيونية تُبرز تاريخ القرية وإسهامها الحضاري.
أما مدير مكتب الآثار والمتاحف في الضالع فضل محمود فقد طالب الجهات المعنية بأن “تهتم وتعتني بالمعالم التاريخية، وأن تدعمنا ماليًا وماديًا ومعنويًا، لنتمكن من ترميم المعالم التاريخية التي تضررت أسطحها وبنيانها”.