في مشهد يُخفي وراءه الكثير من التضليل، شهدت وزارة المالية في مارس الماضي وقفة احتجاجية نظمتها إدارة صندوق صيانة الطرق والجسور تحت شعار المطالبة بصرف المستحقات وتعزيز الاعتمادات. غير أن هذه الوقفة، التي شارك فيها موظفون وعمال بحسن نية، لم تكن سوى غطاء لخطة ممنهجة تهدف إلى الضغط على وزارة المالية وإجبارها على التخلي عن دورها الرقابي، بعد أن بدأت الوزارة بتطبيق التزامات إصلاحية صارمة لضبط الإنفاق العام ومنع التلاعب بالمال العام.
الوقائع تكشف المستور: أين ذهبت 3 مليار ريال؟
في نهاية ديسمبر 2024، رفضت وزارة المالية طلبًا تقدم به رئيس الصندوق لتعزيز حساب النفقات بمبلغ يتجاوز (12 مليار ريال)، لعدم التزام الإدارة بتقديم خطة إنفاق أو حسابات ختامية أو تسوية للعُهد المالية السابقة، إلى جانب مخالفة تعليمات فتح الحسابات الرسمية. ورغم هذا، أقرت المالية – كإجراء مؤقت – تعزيزًا محدودًا بمبلغ (3 مليار ع ريال) يصرف تحت التسوية، شريطة تخصيصه فقط للنفقات التشغيلية الحتمية.
لكن الإدارة استغلت هذا المبلغ بشكل انتقائي ومشبوه، ورفعت تصفية فضفاضة في مارس 2025م عبارة عن جدول بلا أي وثائق داعمة، تظهر فيه تخصيصات مبالغ ضخمة لمهندسين ومقاولين محددين، في مقابل تجاهل صرف المرتبات لموظفي الصندوق لشهري فبراير ومارس، وهو ما تسبب بتأزيم الوضع الداخلي عمدًا تمهيدًا للضغط عبر الشارع.
تضليل ممنهج وتحريض محسوب
بعد خمسة أيام فقط من رفع التصفية غير المستوفاة، تم تحريك الموظفين لتنفيذ وقفة أمام وزارة المالية، ورفع شعارات تتهم الوزارة بعرقلة الصرف وحرمانهم من مستحقاتهم. في الواقع، كانت تلك المستحقات محتجزة داخل الصندوق نفسه، وتم توجيهها لأغراض تشغيلية غير شفافة ومحاباة جهات معينة، ما يؤكد أن الوقفة لم تكن للدفاع عن الحقوق، بل لابتزاز الوزارة.
الرضوخ المؤسف والتراجع عن الإصلاح
تحت ضغط الوقفة والحملة الإعلامية المصاحبة، استجابت وزارة المالية بشكل مفاجئ، ووجهت البنك المركزي بصرف مبلغ إضافي قدره (4 مليار ريال) دون استيفاء المتطلبات القانونية، وهو ما يُعد تراجعًا صريحًا عن نهج الإصلاح المالي، ومنحًا غير مبرر للثقة في إدارة أثبتت فشلها وخرقها المتكرر للوائح.
إعداد المشهد للفوضى
في خلفية المشهد، كانت إدارة الصندوق تُمهد لسيناريو أكثر خطورة: تعطيل النشاط مؤسسيًا من الداخل. تم منع تزويد مولد الكهرباء بالديزل، وتم تجميد بعض الأنشطة عمداً لتبرير حالة الشلل، كل ذلك لتصوير الوزارة كعائق أمام العمل، بينما الحقيقة أن الانهيار نتيجة سوء إدارة وتوظيف الموارد لأهداف ضيقة.
المستفيدون من الفوضى: تحضير المقاولين للضغط القادم
على ذات الخط، بدأت الإدارة في تهيئة بعض المقاولين للدور ذاته، عبر تأخير مستحقاتهم ودفعهم إلى التلويح بالاحتجاج، رغم أن بعضهم كان من أكثر المستفيدين من الصرف الانتقائي خلال التصفية السابقة، في تكرار متعمد لذات المسرحية.
أهداف خفية: إسقاط الرقابة والعودة للصرف المباشر
الغاية الحقيقية لهذه اللعبة هي إلغاء الحساب الوسيط الذي أنشأته المالية، والعودة إلى الصرف المباشر من حساب الإيرادات دون رقابة، بما يسمح بتمرير الإنفاق دون خطة أو توثيق أو مساءلة. ذلك يعني عمليًا فتح الباب واسعًا أمام الفساد المؤسسي، ونسف جهود الدولة لإعادة ضبط المالية العامة.
السؤال الأهم: من يعطل الصرف حقًا؟
بمراجعة المذكرات الرسمية، نجد أن وزارة المالية لم تطلب أكثر من التزام قانوني بسيط: خطة إنفاق معتمدة (المادة 16 من اللائحة التنفيذية للقانون المالي)، حسابات ختامية دقيقة (المادة 40 من القانون المالي رقم 8 لسنة 1990)، وتصفية العهد وفقًا للمادتين 52 و53 من لائحة الرقابة المالية. فهل من الصعب على إدارة الصندوق الالتزام بهذه المتطلبات؟ أم أن عدم الالتزام متعمد لتجنب الشفافية والمساءلة؟
الختام: لا تسقطوا في الفخ مجددًا
على الموظفين والمقاولين والرأي العام أن يكونوا أكثر وعيًا، وألا يُستغلوا مجددًا كأدوات في مشروع هدم مؤسسي ممنهج. فالمعركة الحقيقية ليست بين الصندوق والمالية، بل بين الفساد والإصلاح، بين الشفافية والتضليل.
والسؤال الذي يتهرب منه الجميع:
لماذا لا تلتزم إدارة الصندوق حتى اليوم بما طلبته وزارة المالية؟