لم يكن السابع من يوليو 1994 يوماً لانتهاء حرب، بل بداية لانقلاب فلسفي على مفهوم الدولة في الجنوب. في هذا اليوم لم يُهزم طرف بالسلاح فقط، بل انتصرت منظومة فكرية تشكّلت في بيئة تقليدية ترى الدولة امتدادًا للقبيلة او الطائفة، وان السلطة حقًا مكتسبًا بالقوة، لا عقدًا اجتماعيًا يضبط العلاقة بين المواطن والمؤسسة.
منذ اجتياح عدن في عام 1994، بدأت هذه الفلسفة تتسلل إلى تفاصيل الحياة العامة. لم يُعد الهدف ترميم الدولة بل إعادة صياغتها على نموذج المنتصر، حيث تختلط الوظيفة بالولاء، وتتحول المؤسسات إلى أدوات للنفوذ لا أدوات للخدمة. أصبح “عاقل حارة” هو الوسيط بين المواطن ومؤسسات الدولة، والمأمور “شيخ منطقة”، والمسؤول وسيطًا بين الناس والسلطة، لا ممثلًا لها. المواطن في هذا النظام لا يُعامل كصاحب حق، بل كمرؤوس عليه أن يرضى بما يُمنح له.
في ظل هذا التحول، لم يعد الجنوب شريكًا في دولة، بل ساحة نفوذ تُدار بالأوامر والوساطات. جرى تقويض فكرة الدولة من أساسها: فالقانون صار ثانويًا أمام العُرف، والاستحقاق أُلغي لصالح الولاء، وغابت المؤسسات لتحضر العلاقات. كل من أراد البقاء في هذا المناخ أُجبر على التنازل عن كرامته السياسية والاجتماعية، ليحظى بموقع أو حماية أو مورد.
أما المواطن الجنوبي، فقد وجد نفسه داخل دولة لم يعرفها من قبل. لا مؤسسات تضمن حقه، ولا نظام يعترف بوجوده إلا بصفته تابعًا. تحول من شريك إلى خاضع، ومن حامل حلم وطني إلى مجرد رقم في منظومة لا تعبأ إلا بالسيطرة والاستفادة.
التحرر من هذا الواقع لا يعني الانفصال العاطفي أو الاجترار السياسي، بل تفكيك فلسفة “عاقل الحارة” التي غزت الجنوب بعد السابع من يوليو. لا مستقبل لدولة تقوم على الطاعة والعُرف والهيمنة. لا مستقبل في ظل منظومة لا تؤمن بالندية ولا بالتعدد. إن الجنوب لا يحتاج إلى استعادة الأرض فقط، بل إلى استعادة فكر الدولة، وإحياء قيم المواطنة، وبناء مؤسسات تُدار بالعقل لا بالغلبة.
اليوم، وبعد عقود من التهميش، لم يعد من الحكمة ترميم ما تهدم على الأسس ذاتها. بل بات من العقل والمنطق أن يُفكك مشروع الوحدة بهدوء ومسؤولية، وتُعاد صياغة العلاقة بين الشمال والجنوب على أسس جديدة، تتيح لكل طرف إعادة ترتيب بيته الداخلي، وبناء نظامه السياسي على ما يتناسب مع هويته وتاريخه. دولتان متوازيتان قد تكونان خطوة أولى نحو الاستقرار، بينما يُترك مشروع الوحدة لأجيال قادمة، أكثر نضجًا وحرية وقدرة على التلاقي لا الغلبة.