في وقتٍ تتكاثر فيه الأزمات وتتراجع فيه بعض العقول عن مسؤولياتها الحقيقية، لا تزال هذه الأرض تنجب من يرفضون الاستسلام للواقع، ويؤمنون بأن النهوض يبدأ من الذات، لا من كرسي الحكم.
يوم أمس ، كان يومًا مختلفًا… لم يكن يوم تكريم، بل يوم إثبات بأن في هذا الوطن مسؤولين لا يزالون يرفعون راية العقل أولًا.
الفريق الركن محسن محمد حسين الداعري، وزير الدفاع، وقف أمام لجنة علمية رفيعة في القاهرة، داخل قاعة أكاديمية ناصر للدراسات العليا الاستراتيجية، ليناقش أطروحة دكتوراه بعنوان:
“الاستراتيجية المقترحة لمواجهة تداعيات الحروب الصامتة على الأمن القومي العربي”.
هكذا، بصمت وثقة، أصبح الوزير الداعري أول وزير دفاع في تاريخ هذه الدولة يحمل درجة الدكتوراه العلمية من واحدة من أرفع المؤسسات العسكرية في الوطن العربي.
لا شهادة مجاملة، ولا منصب يفرض احترامه، بل مسيرة طويلة من التأهيل، بدأها من الكلية العسكرية ومدرسة القادة والأركان، وواصلها حتى أعلى درجات البحث الاستراتيجي.
في زمنٍ أصبحت فيه بعض المناصب تُستغل لتعظيم المكاسب الشخصية-ورأيناه ذلك كثيرا بعد حرب 2015م-أصرّ الوزير الداعري أن يجعل من موقعه منبرًا لإنتاج المعرفة، لا منصة لاستهلاك الدولة.
اختار أن يكتب أطروحته لا عن سيرة ذاتية ولا عن منجزات وهمية، بل عن الخطر الهادئ الذي يفتك بالأمم من الداخل:
الحروب الصامتة، تلك التي لا تُسمع أصواتها لكنها تُدمر منظومات الأمن والفكر والسيادة دون طلقة واحدة.
هذا التوجه يحمل رسالة سياسية عميقة، لمن أراد أن يفهم:
المعركة الحقيقية ليست دائمًا في ميادين القتال، بل في كيفية حماية الوطن من الداخل، فكريًا وإعلاميًا واقتصاديًا، قبل أن نُضطر للدفاع عنه عسكريًا.
الحضور في قاعة المناقشة أمس لم يكن عابرًا… رموز وطنية وعربية، سفراء وأكاديميون، شخصيات أمنية وعسكرية، جميعهم حضروا لأن الحدث استثنائي.
لكن الأهم من الأسماء، كانت الرسالة:
أن في هذا البلد مسؤولًا لا يتعامل مع الوزارة كوظيفة مؤقتة، بل كمشروع وطني متكامل.
ولأن هذه الأرض تحتاج اليوم إلى رجال من نوع مختلف، فإن الفريق الداعري اليوم لا يُحتفى به كوزير يحمل شهادة، بل كنموذج لمسؤول قرر أن يضيف للوظيفة قيمة، لا أن يسحب منها ما تبقى من هيبة.
حقيقة لقد أثبت الوزير أن تأهيل الذات أهم من تلميع الصورة، وأن الاستعداد للمرحلة القادمة يتطلب فكرًا عميقًا أكثر من أي وقت مضى،وهو بذلك يقدم رسالة غير مباشرة لمن يتربعون على كراسي الدولة دون أن يقدموا لها شيئًا يُذكر:
إن لم تكن مؤهلًا لتطوير نفسك، فكيف ستقود مشروعًا وطنيًا؟
اخيراً لم يكن يوم أمس مجرد لحظة أكاديمية، بل كان لحظة رمزية تعني للكثير من أبناء هذا الوطن المتعطشين لرؤية مسؤولين لا يبحثون عن لقب، بل عن أثر.
وفي وطنٍ لا يزال يفتش عن الضوء في آخر النفق، قدّم الفريق الداعري بالأمس واحدة من تلك الإشارات الهادئة:
لندرك جميعاً ان البناء الحقيقي لا يبدأ من القصر، بل من الفكرة والعلم والعلم فقط