انهيار حركة الإخوان في اليمن…قراءة في المشهد الأخير …كتب/ ناجي محمود العيفري 

ناجي محمود العيفري 

اليوم تقف حركة الإخوان المسلمين في اليمن ـ ممثلة بجناحها السياسي “حزب الإصلاح” على حافة الهاوية تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد سنوات من التغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع، لم يكن سقوطها وليد لحظة، بل نتيجة مسار طويل من التناقضات السياسية، والمراهنات الخاسرة، والتحالفات غير الطبيعية.

لقد بنت هذه الحركة مشروعها على رمال متحركة، معتمدة بشكل أساسي على الولاءات القبلية التي بطبيعتها لا تؤمن بمفهوم الدولة الحديثة ولا بالمدنية ولا بما تقتضيه من مؤسسات وقوانين، ومسؤوليات جماعية ولأنها لم تستطع التوفيق بين منطلقاتها الأيديولوجية ومقتضيات الواقع، اصطدمت بعنف مع فكرة الدولة، ووقفت ضد كل مسعى حقيقي لبناء نظام سياسي متوازن جامع لا يقصي أحدا.

أما في الجنوب، فقد ارتكبت الحركة خطيئة لا تغتفر مشاركتها في غزو الجنوب أثناء الحرب وسعيها الدؤوب للنيل من قضية الشعب الجنوبي العادلة، أفقدها أي حضور سياسي أو شعبي في تلك الأرض التي دفعت أثمانًا باهظة من أجل التحرر والاستقلال فلم تكتفِ بتلك المشاركة بل ما تزال تسخر ما تبقى من قوتها وإعلامها وعلاقاتها لضرب تطلعات الجنوبيين السياسية، متناسية أن الزمن تغير، وأن الشعوب لا تنسى.

وما زاد الطين بلة، هو الارتباط الأيديولوجي والتنظيمي لحزب الإصلاح بالحركات المتطرفة، من أفغانستان إلى المغرب العربي وهو ما جعل الشكوك الدولية والإقليمية تحوم حول دوره الحقيقي، وأهدافه الخفية ومصادر تمويله وارتباطاته العابرة للحدود.

وبين صراعات الداخل وتقلبات الخارج وبين فقدان الحاضنة الشعبية في الشمال وتبخرها في الجنوب، لم تعد للحركة قدرة على المناورة لقد تهشمت صورتها وتهاوت تحالفاتها وباتت رقما هامشيا في معادلة سياسية لا ترحم الضعفاء ولا تعبأ بمن فاتهم القطار.

لم يكن “حزب الإصلاح” في اليمن أكثر من ظاهرة صوتية طاغية، ملأت الفضاء السياسي والإعلامي ضجيجا، لكنها في جوهرها كانت كفقاعة ارتفعت عاليا دون أن تترك أثرا حقيقيا على الأرض، نعم لقد أثر الحزب في الثقافة السياسية اليمنية، وغير في بنية الخطاب العام، لكنه حينما حانت ساعة الفعل، وارتفعت نداءات المواجهة، تبخرت كل الشعارات أمام أول اختبار حقيقي.

في الحرب الأخيرة ضد جماعة الحوثي، حيث كان الوطن يئن تحت وطأة الكهنوت المسلح، لم يسجل للإصلاح أي نصر يذكر،لم يكن له موقف حاسم، ولا معركة فارقة، رغم ما حظي به من دعم سخي من التحالف العربي، مالا وسلاحا وإسنادا سياسيا وهو الأمر الذي فتح باب التأويل على مصراعيه، ودفع كثيرًا من المحللين إلى التساؤل هل كان هناك تخادم خفي بين جماعتي الإصلاح والحوثي؟ أم أن الحزب استغل الحرب كفرصة سانحة لاستنزاف التحالف، وتحقيق مكاسب شخصية على حساب دماء اليمنيين؟

في كلتا الحالتين، النتيجة كانت واحدة هي فقدان الثقة،لم يعد الحزب موضع احترام في عيون حلفائه، ولا موضع قبول في وجدان شعبه، لقد تحول إلى كيان سياسي مأزوم، يعيش على هوامش الصراع، ويتكئ على شعارات جوفاء فقدت معناها، ووجوه سياسية ملت منها حتى الكاميرات.

واليوم، لم يتبق له من سلطة الأرض سوى مدينة تعز، المدينة التي لطالما كانت رائدة للتمدن، وحاضنة للفكر والانفتاح، فإذا بها تدجن وتُملشن تحت راية الإصلاح، حتى كادت تفقد وجهها التاريخي وهويتها المدنية. انظروا إلى تعز اليوم، كيف استبيحت فيها دماء الكوادر العسكرية والنخب المدنية،سلسلة اغتيالات ممنهجة، تنسب إلى الأجنحة المسلحة للحزب، وكأن المدينة أضحت رهينة لتصفية الحسابات الداخلية والخارجية.

لا يدهشنا اليوم أن نسمع عن محاولات تقارب ومغازلة سياسية بين حزب الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام،فالمسألة ليست وليدة اللحظة، ولا هي انحراف عن مسار، بل هي عودة إلى الأصل، إلى الجذر السياسي الذي لم يقتلع يوما، وإن توارى خلف لافتات مؤقتة وشعارات عابرة.

فالإصلاح، في جوهر تكوينه الأول، لم يكن سوى ظل انسلخ من جسد المؤتمر في لحظة ظرفية، اقتضتها الحاجة لمواجهة الجنوب، لا لخلق مشروع بديل أو رؤية وطنية مستقلة لقد خرج الإصلاح من معطف المؤتمر لكنه لم يغادره تماما بقي الولاء وبقيت الروح وبقيت أدوات النفوذ نفسها وإن تغيرت اللغة وتبدلت الرايات.

أغلب القيادات القبلية التي تتصدر اليوم صفوف الإصلاح، لم تعرف غير المؤتمر بيتا سياسيا أول وانتم تعرفوا موقف رئيس الإصلاح عبدالله الأحمر في انتخابات 2006 عندما قال سوف أصوت لصالح عفاش، وهو الأمر الذي يدلل إن القبائل لا تنظر للإخوان إلا كوسيلة لإعادة إنتاج النفوذ، لا كخيار فكري أو عقائدي هكذا تحول حزب الإصلاح، تدريجيا إلى واجهة دينية لحسابات قبلية ومراكز قوى كانت تدور أصلا في فلك المؤتمر.

ومن هنا نفهم طبيعة العلاقة الملتبسة بين الحزبين ليست علاقة خصومة حقيقية بل توزيع أدوار تكتيك طويل النفس اختطفت فيه حركة الإخوان في اليمن، وقُيّدت بوظيفتها العسكرية والدعوية في حرب لا تخدم إلا مشروع الهيمنة، لا الدولة، ولا الشعب.

لقد تم توظيف الإصلاح، منذ نشأته، ليكون السيف الأيديولوجي والعصا العقائدية التي تشهر في وجه الجنوب كلما حاول أن ينهض أو يستعيد صوته واليوم تعود الوجوه إلى جذورها، وتذوب الفوارق بين الحزبين كما كانت دائما واهية مصطنعة تخفي تحتها وحدة المصالح ووحدة الغاية.

لذلك فالمغازلة الراهنة ليست حدثا طارئا، بل امتدادا لمسار طويل من التداخل والتشابك إنها تذكير جديد بأن كثيرا من الانقسامات في اليمن لم تكن أبدا صراعات فكر بل كانت صراعات سلطة بأقنعة مختلفة.

كل ذلك فضح الحزب على رؤوس الأشهاد وأسقط القناع عن وجهه السياسي لم تعد البيانات قادرة على تغطية الفشل ولا الشعارات كافية لحشد البسطاء فها هو الحزب يترنح في أيامه الأخيرة، يصارع مرحلة الأفول بعد أن فقد حاضنته الشعبية واحترقت أوراقه في الإقليم ولم يعد له من نصير.

إنه موسم السقوط لا لتيار سياسي فحسب بل لمشروع كامل اختار الصوت العالي بدلا من العمل واختار التكسب بدلا من التضحية فأضاع البلاد والفرصة معا.