في زمن اختلطت فيه الألوان حتى ضاعت الفوارق بين الأبيض والرمادي، أصبحت الأقنعة أسمى من الوجوه، والتلوّن فضيلة يُكافأ، بينما صار الثبات على المبدأ جريمة يُعاقب صاحبها بالصمت والإقصاء.
صار الوفاء عبئًا، والخيانة طريقًا للسلطان، في مشهد سياسي يدهش المتابع ويكشف عن تناقضات غريبة في القيم والمواقف.
الواقع أن هذا الزمن الملتبس يشهد تبدّل الوجوه كما تتبدّل الفصول، وتُباع القناعات في أسواق السياسة كما تُباع البضاعة المستهلكة.
أولئك الذين بالأمس كانوا يُسبّحون باسم النظام، يبرّرون قسوته ويجمّلون قبحه باسم العدالة الزائفة، أصبحوا اليوم في صدارة المشهد السياسي، متوشّحين رداء الوطنية، متسلقين على أكتاف المخلصين الذين حملوا القضية على ظهورهم وسط نار الحرب وضباب الفوضى.
لقد أتقن هؤلاء فن التحوّل، فهم يعرفون متى يغيّرون جلدهم، ومتى يبدلون خطابهم، وكيف يبرّرون لكل مرحلة لونها الجديد.
في المقابل، أُقصي أولئك الذين ظلوا متمسكين بمبادئهم، لم يتعلّموا الرقص على حبال المصالح، ولم يتقنوا فن النفاق أو ارتداء الأقنعة.
إنها سخرية الأقدار، كيف يمكن لأبناء الأمس المظلم أن يتحدثوا عن تجديد المبادئ وإحياء تاريخٍ نسيه الشعب؟ كيف يُعيدون صياغة الشعارات على نغمة الموجة السائدة، غير آبهين بذاكرة تحفظ وجوههم وخطاياهم؟
هؤلاء ليسوا عميانًا كما يزعمون، بل يرون كل شيء بوضوح فاضح. يرون الظلم الذي وقع، ويرون الجنوب الذي نزف، لكنهم اختاروا موائد السلطان، حيث الفتات أغلى من الكرامة، وحيث الصمت أثمن من قول الحق.
واليوم، يعودون إلى المشهد بملابس جديدة، يبيعون الولاء تحت رايات براقة، ويتاجرون باسم الوطن، يبتسمون في وجهه، وفي قلوبهم خناجر لا تصدأ.
إنها ذات الوجوه القديمة، لكن بأقنعة أنيقة ولغة مصقولة، يحاولون من جديد كتابة التاريخ على أهوائهم، كأن الأرض نسيت دماء أبنائها، وكأن السماء غفرت للخونة.
وأنا، كمواطن جنوبي يعرف وجع التراب،
أرى في هذا العبث امتحانًا إلهيًا للصدق والثبات،
امتحانًا يفرز المعادن الحقيقية من الزيف المطلي بالوطنية.
فما أكثر الذين باعوا وطنهم بدرهم،
وما أندر من حملوا ترابه في قلوبهم كما تُحمل الروح في الجسد.