الصدارة سكاي/عن إندبندنت
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لمجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية أثناء عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إن حلف شمال الأطلسي في حالة “موت إكلينيكي”، مشككاً في قاعدة أمنية، تفيد بأن الهجوم على عضو بالحلف يعني الهجوم على كل الحلفاء. ومن ثم عاد وجدد تلك الانتقادات، مهنئاً نفسه، على وصفه للحلف بأنه يعاني من الموت الدماغي. جاء ذلك قبل قمة كانت مقررة لحلف “الناتو” في بريطانيا في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) عام 2019. وأضاف حينها، أن “القمتين الأخيرتين تم تكريسهما فقط لتحديد كيفية تمكننا من تخفيف التكلفة التمويلية على الولايات المتحدة”، مشيراً إلى “انفصال صارخ” بين المناقشة وبين التحديات التي تواجه الحلف. ما أثار جدلاً، ورد فعل قوياً من نظرائه الأوروبيين الذين يعتبرون أن أوروبا لا تزال في حاجة للاعتماد بقوة على الحلف للدفاع عن نفسها. ومن ثم وبعد زيارته إلى الصين في الخامس من أبريل (نيسان) الحالي، ماكرون أو (الابن المشاكس لحلف شمال الأطلسي)، كما يلقب، وجد نفسه مجدداً وسط عاصفة من الانتقادات بسبب تصريحاته حول التبعية للحليف الأطلسي الآخر، وقال “أن تكون حليفاً لا يعني أن تكون تابعاً، ولا يعني أنه لم يعد من حقك أن يكون لك تفكيرك الخاص”. ما لبث أن أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل “أن قادة الاتحاد يميلون لتوجه ماكرون بشأن الاستقلالية الاستراتيجية عن واشنطن”، وفقاً لما نقلته صحيفة “بوليتيكو” الأميركية. يأتي هذا بعيد إعلان البرازيل، أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، والصين المنافس الأقوى لأميركا، في مارس (آذار) الماضي، أنهما توصلتا إلى اتفاق لإجراء صفقاتهما التجارية الهائلة مباشرةً، واستبدال اليوان (العملة الصينية) بالريال (العملة البرازيلية) والعكس بالعكس بدلاً من الاعتماد على الدولار.
نظام “بريتون وودز”
تلك التطورات تطرح علامات استفهام وأسئلة عن سطوة الدولار كعملة تسيطر على النظام المصرفي العالمي، ومتى بدأت؟
في الوقت الذي كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مستعرة واستعداداً لبناء نظام اقتصادي دولي جديد، اجتمع 730 مندوباً من جميع دول الحلفاء الـ 44، في فندق “ماونت واشنطن” ببلدة بريتون وودز في نيوهامشير الأميركية، للمشاركة في المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة، وذلك في يوليو (تموز) 1944، بغية تأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي. وتوفير حرية التجارة ومد الدول الأعضاء بالسيولة الكافية، وضمان عدم فرض القيود والعوائق في وجه المعاملات الدولية. ونشأ نظام “بريتون وودز” كأول نظام إدارة نقدي أسس قواعد للعلاقات التجارية والمالية، بين الدول الصناعية الكبرى في العالم، في منتصف القرن العشرين. حيث وجد ممثلو الدول المجتمعة، أن قاعدة الذهب لم تكن مرنة، ولم تساعد على تجاوز الأزمات الاقتصادية، مما جعلهم يقررون الاستعاضة عنها بنظام جديد سمي نظام “بريتون وودز”، مبني على أساس تحديد سعر لكل عملة مقابل كل من الدولار والذهب. ووفقاً لهذا النظام أصبحت أسعار الصرف ثابتة وقابلة للتعديل في الوقت نفسه. فحين تجد الدولة المعنية أن قيمة عملتها قد ابتعدت كثيراً من مستوى الأسعار السوية أو الصحيحة، فإن لها الحق أن تتفق مع صندوق النقد الدولي الذي أُسس في “بريتون وودز” لتعديل قيمة عملتها. وكانت الملامح الرئيسة للنظام هي إلزام كل بلد بوضع سياسة نقدية تحافظ على سعر الصرف بربط عملتها بالدولار الأميركي وقدرة صندوق النقد الدولي. وهدفت اتفاقية (Bretton Woods Agreement Forex Markets) إلى إيجاد نوع من الثبات في السياسات النقدية وأسعار الصرف بين دول العالم، عبر وضع البنية التحتية لتنقل رؤوس الأموال، بين الدول كأساس لتسهيل التجارة العالمية. وخرجت حينها وبعدها المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة “غات”)، لتدعم التوجه العام السياسي والاقتصادي للاتفاقية. وعلى رغم مشاركة الاتحاد السوفياتي في أعمال المؤتمر ومناقشاته فإنه لم ينضم إلى عضوية صندوق النقد الدولي لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأميركي على النظام المقترح. وفي ذلك المؤتمر برزت هيمنة الولايات المتحدة وسيطرتها على أعماله، إذ اعتمد المؤتمر في مقرراته اعتماداً أساسياً “خطة هوايت”، (هاري ديكستر وايت، كان مديراً رسمياً للخزينة الأميركية)، التي تعكس وجهة النظر والمصلحة الأميركيتين. واستبعد “مشروع كينز” (جون مينارد كينز، الاقتصادي البريطاني)، والذي يمثل مصلحة بريطانية. وفي 15 أغسطس (آب)1971، أنهت الولايات المتحدة من جانب واحد قابلية تحويل الدولار الأميركي للذهب، وأصبح الدولار عملة إلزامية، ما عرف بصدمة نيكسون، الذي خلق وضعاً أصبح فيه الدولار الأميركي عملة احتياطية تستخدمها الكثير من الدول. في الوقت نفسه، أصبحت هناك إمكانية تعويم، للكثير من العملات الثابتة كالجنيه الاسترليني مثلاً.
يرى بعض منتقدي الرئيس ماكرون أن حاجتهم الماسة للحليف الأميركي تزايدت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. مما يعني أنه، حتى لو كان بعض الأوروبيين راغبين بالانفصال وبالتحرر من التبعية من هيمنة الولايات المتحدة، فإن حرب أوكرانيا، والمد الصيني العالمي، يجعلهما متمسكين أكثر بتحالفهم مع واشنطن. تلك الاختلافات بوجهات النظر، هل تنذر بانقسامات داخل القارة الأوروبية؟ على اعتبار أن بعض القوى ترى أنه لا يمكن الاستغناء عن واشنطن، بينما ينظر آخرون بعين القلق لتداعيات تصريحات ماكرون إذا عاد ترمب إلى البيت الأبيض.
“اندبندنت عربية” حاورت عضو حزب “النهضة الفرنسي” حزب الرئيس ماكرون، المحامي زيد العظم، للاطلاع على بعض التفاصيل. يقول العظم، إنه سيتم اتخاذ خطوات بعد إعلان رئيس المجلس الأوروبي عن أن قادة الاتحاد يميلون لتوجه ماكرون بشأن الاستقلالية الاستراتيجية، داخل المجلس، تعزز من الشراكة الأوروبية والتنسيق الأوروبي الموحد، منها دفع الدول إلى التسلح عن طريق السوق الأوروبية. ذلك أن قيام ألمانيا بشراء أسلحة من الولايات المتحدة أخيراً، كانت له تداعيات سلبية على وحدة القارة الأوروبية وتناغمها. اليوم يقال يجب أن تكون أوروبا قوة ثالثة موازية لأميركا والصين، ولا بد من تعزيز وحدتها عبر التنسيق الأوروبي الواحد الموحد، لأن ذلك من شأنه أن يصب في قوتها. ويؤكد العظم على استطاعة أوروبا الاستقلال الاستراتيجي، مع أن ذلك قد يكون محفوفاً بالصعوبات وبالعراقيل، من دول داخل الاتحاد أي تلك الدول الأكثر ارتباطاً بأميركا، أو الدول التي ترى نفسها أنها لم تقطع بعد خيوط ارتباطها مع دولة مثل روسيا.
وبرأي المستشار القانوني في المفوضية الأوروبية، الأكاديمي محيي الدين الشحيمي المقيم في باريس، بحديث خاص مع “اندبندنت عربية”، أن العالم يشهد تسارعاً كبيراً في وتيرة الأحداث، مقرونة بتبدل مشهود وملحوظ لمواقع النفوذ، مع تقدم بعض الدول وتراجع بعضها الآخر، حيث يتجه النظام الدولي من نظام القطبية الواحدة والذي عرفه المجتمع الدولي إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو التعددية القطبية بخطوات بطيئة، ولكنها ثابتة. وينبغي التوضيح في هذا الصدد حول أن التعددية القطبية ليست سياسية فقط وإنما اقتصادية، ونقدية، ومالية، وتجارية. كما سرعت جائحة كورونا وتيرة الأزمات الاقتصادية وحركية الاضطرابات المؤسساتية الناتجة من العطب في النموذج الحيثي للدورة الاقتصادية، مغرقة العالم في آتون الركود والتضخم ومشكلات السيولة، ناهيك عن معضلات سلاسل التوريد. ثم جاء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والذي أعلن بداية مرحلة جديدة في أيديولوجيا السياسة الاستراتيجية والتحليل الاقتصادي. من هنا يرى الأكاديمي الشحيمي أن هذه المرحلة تحتوي على تحالفات جديدة وتجمعات دولية فارقة، عنوانها الأساسي الأمن والضمان والمرونة الاقتصادية والملاءة النقدية. ويعتبر أن الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي إحدى هذه الاحتمالات.
أوروبا “قوة ثالثة عالمية”
يقول الشحيمي، إن مشروع الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي هو مقدمة لإنشاء ركيزة أوروبية وحتى داخل حلف “الناتو”، في أن يكون “الناتو” جزءاً من الشراكة وليس التبعية. مما يجعل من “الناتو” أساس الشراكة الأطلسية، وبشكل مستقل عن البراغماتية الأوروبية، من دون إغفال مخاوف المؤثرات السلوكية بين حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وهذا سيقود إلى ضرورة وجود منظمة أوروبية جديدة، إلى جانب “الناتو”. وهذا سيعتمد على مروحة واسعة من التوافق وبخاصة من الدول الأوروبية المحسوبة على المعسكر الشرقي سابقاً. ويشير عضو حزب النهضة زيد العظم، أن هذه التحولات التي تجري على مستوى العالم، تعني اعتماداً أكبر على قدرات القارة الأوروبية الاقتصادية والعسكرية، وذلك عبر تعزيز منطقة اليورو، وأن تقوم الدول الغنية في الاتحاد، بدعم أكبر للدول الأقل ثراء في القارة. وهذا ما يقع على عاتق ألمانيا قبل أي دولة أخرى. وبناء عليه وللعمل على أوروبا كقوة ثالثة عالمية، يعني ذلك إيجاد تضامن اقتصادي أكبر وتكافل اقتصادي معزز أكثر. وهذا ما ظهر بشكل واضح بطريقة توزيع لقاحات كورونا المجانية، حيث استطاعت الدول الغنية أن تستوعب حاجات الدول الأقل ثراء. ومن الممكن أن يتحول هذا النموذج إلى نواح أخرى، كالتعاملات المالية بين الدول الأعضاء، والتسلح وشراء الأسلحة على أن تتم من السوق الأوروبية المشتركة، وهذا حجر الأساس في تعزيز قوة أوروبا.
وبالنسبة للمستشار في المفوضية الأوروبية، التصريحات التي أطلقتها فرنسا على لسان رئيسها، والمطروحة من زوايا مختلفة ومتعددة الأبعاد داخل الاتحاد الأوروبي، ستحول أوروبا من قوة اقتصادية واجتماعية، إلى قوة سياسية ولاعب جيبوتيتيك دولي مستقل تماماً وخصوصاً عن أميركا. ويحظى هذا التصور بشعبية كبيرة في أوروبا والتي تعاني حالياً حيث الحرب في دارها، وتشعر بنفسها بأنها تحارب روسيا بدلاً من العالم بالجنود الأوكرانيين. من هنا تحاول أوروبا الفصل بين الشراكة، والتبعية، والتحالف، والاندماجية. تريد الشراكة مع أميركا ضمن حلف شمال الأطلسي، إلا أنها لا تريد التبعية لها والذوبان في مخططاتها، فلم تعد التبعية الأوروبية المتنامية لواشنطن مرغوبة، لذا من الممكن أن يشكل هذا المشروع حجر الأساس إلى أن تكون أوروبا لاعباً جيوسياسياً دولياً ومستقلاً، وقادراً على إنجاز الحلول والسير في مبادرات.
“قوة مكملة وليست مناوئة للولايات المتحدة”
إن استخدام الدولار كعملة مشتركة في العالم أعطى الولايات المتحدة مكانةً خاصةً في الاقتصاد العالمي، وفي العقود الثمانية الماضية استخدمت هذه الدولة الدولار كسلاح سياسي لمعاقبة الدول المعادية من أجل مواءمتها مع سياساتها العالمية. ويشير العظم إلى أنه “علينا ألا ننسى عندما تعلن فرنسا أنها تريد تعزيز القوة الأوروبية وجعلها قوة ثالثة، فذلك لا يعني بالضرورة أن تكون تلك القوة مناهضة للولايات المتحدة أو مناوئة لها، بل على العكس، ممكن أن تتكامل معها لإنشاء ثنائية. بمعنى أن مشروع الرئيس ماكرون وفرنسا هو من أجل خلق مكمل للقوة الأميركية، بالتالي الخروج من التبعية”. ويضيف أن هناك دولاً على ارتباط وثيق بواشنطن كبولندا، وبعض دول المجموعة الإسكندنافية، وحصول خلافات داخل الاتحاد وارد جداً، لكن ربما تستطيع الدول الكبرى استيعاب تلك الانقسامات. وهذه الخلافات قد تؤدي إلى انقسامات، ستظهر بشكل أوضح، العام المقبل خلال انتخابات البرلمان الأوروبي. لأن الأحزاب المرشحة ستتمحور برامجها حول هذا الموضوع، وما هي الخطط والبرامج لتعزيز قوة القارة الأوروبية.
هل تستطيع الدول الاستغناء فعلاً عن التعاملات بالدولار؟
تسببت الحرب في أوكرانيا بالعديد من المتغيرات في النظام الجيوسياسي للعالم، عبر الدخول بحقبة عالمية جديدة. فإضافة إلى الاصطفاف العسكري والسياسي الذي تشكل حول العالم، كانت لهذه الحرب أيضاً تأثيرات في المجال الاقتصادي والمالي. من هنا يدرس الاتحاد الاقتصادي لدول جنوب شرقي آسيا المعروف باسم “آسيان”، إزالة الدولار واليورو والين والجنيه الاسترليني من المعاملات التجارية بين دوله الأعضاء، واستخدام العملات الوطنية. وفقاً للإحصاءات، في فبراير (شباط) 2013، انخفض استخدام الدولار الأميركي في المعاملات العالمية بنسبة 1.07 في المئة، ووصل إلى 38.85 في المئة من إجمالي المعاملات العالمية التي تمت عبر شبكة سويفت. ما يظهر أن تراجع الدولار يتم بشكل طفيف، وبالنظر إلی القرارات الجديدة لرابطة دول جنوب شرقي آسيا واتفاقيات الصين وروسيا مع حلفائهما، في الأشهر المقبلة سيكون منحدر انخفاض قيمة الدولار أسرع.
وعن هذا يشرح الأكاديمي محي الدين الشحيمي تطورات الانتقال من سيطرة الدولار على التعاملات التجارية العالمية إلى عملات أخرى. ويقول إن هذه المتغيرات تؤثر في المجالات الاقتصادية والمالية، فلا سبيل لتعددية أقطاب سياسية من دون النقدية والمالية. مما يعني إمكانية ألا يكون الدولار عملة التعاقد التجاري الدولي الوحيدة، بانخفاض لنسبة العقود التجارية الموقعة بالدولار عالمياً من 78 في المئة إلى حوالى 65 في المئة العقد المقبل، مع تشكل التجمعات والتكتلات السياسية والاقتصادية المتعددة، من مجموعة دول العشرين إلى “الآسيان” و”بريكس” وهي تجمعات كبرى تحتوي على موارد بشرية ضخمة وأرقام عالية من الناتج القومي العالمي، وهي تدرس بحرية التداول الاقتصادي والمالي والنقدي، بعملات جديدة غير الدولار. ولكنها خطوات ثقيلة جداً وتحتاج إلى وقت، وتأتي هذه التوافقات في سياق إعلان الحكومة البرازيلية مع الصين، وكذلك وبشكل مستقل كواليس التفاهمات الروسية الإيرانية والصينية حول الموضوع نفسه. ولكنها سياسة تحتاج إلى وقت. وعلى رغم أنها سياسات جادة، لكن من شأنها أن تخلق فوضى وتضعضعاً في ميزان التعامل النقدي. مضيفاً أن استغناء الدول عن التعامل بالدولار عملياً غير مستبعد، ولكن لن يتم بوقت سريع. لأنها أمور متعلقة بمدى التتابع الحركي للنظام الدولي نحو الدول الكبرى متساوية في النفوذ والتأثير، وبالتالي إلى إمكانية أن نشهد منافسة حقيقة للعملة الخضراء.