مخيم جنين ذلك المخيم الفلسطيني الصامد الذي لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع ويسكنه 12 ألف لاجئ، يطل على منطقة الأغوار من جهة الشرق والقريب من القدس جنوباً إذ لا يبعده عنها سوى سبعين كيلومتراً فقط، وهو في نفس الوقت أقرب مناطق شمال الضفة الغربية اتصالاً بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، عبر مروج “بني عامر”.. ذلك المخيم الصغير أذل العدو الصهيوني وكسر أنفه وأفقده اتزانه؛ بعد أن سطر بدماء أبنائه أعظم البطولات وقدم أرواحهم قرباناً لحريتهم وكرامتهم، حتى أصبح أسطورة للمقاومة والنضال. ولم تعد المقاومة مقتصرة على غزة دون غيرها عن باقي الأراضي الفلسطينية.
لقد أصبح نموذج “غزة العزة” نموذجاً يحتذي به للمقاومة في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتناسلت كتائب المقاومة في كل مكان، وخاضت حرباً ضروساً ضد جيش العدو الصهيوني الذي اقتحم المنطقة في التاسع عشر من حزيران/ يونيو الجاري، بطائراته الأباتشي وآلياته العسكرية المصفحة، فاستشهد ستة فلسطينيين بينهم طفل وأصيب العشرات، ولكن شباب جنين لم يقفوا مغلولي الأيدي يطلبون نجدة الأشقاء العرب المهرولين إلى التطبيع مع عدوهم ولا نصرة المجتمع الدولي الأعور الذي لا يرى إلا بعين صهيونية بحتة ولا يري ما يرتكبه العدو الصهيوني من مجازر في حق المدنيين الفلسطينيين، بل تصدوا لهذا الهجوم الوحشي الذي استهدف المدنيين ودافعوا عن مخيمهم وأعطوا العدو الصهيوني درسا قاسياً؛ فأعطبوا سبع آليات عسكرية وأصابوا سبعة من جنوده بعد أن أوقعوهم في كمين “ملغوم” وفجروا اللغم عن بعد، مما أسفر عن نسف آلية مركبة مصفحة ومتطورة جداً للجنود، هذا بخلاف إطلاق النار على طائرة مروحية وإعطابها (حسب بيانات الجيش الصهيوني)..
ولم تمض ساعات على اقتحام المخيم حتى أتى رد “كتائب جنين” بعملية اقتحام لمستوطنة “عيلي” وسط الضفة الغربية، والتي تسكنها النخبة، فقتل أربعة مستوطنين وأُصيب غيرهم بجروح خطيرة وترجل منفذ العملية ثم استُشهد، ما دفع حكومة نتنياهو اليمينية إلى المطالبة بتكرار اجتياح “السور الواقي”، كما فعل شارون من قبل.
لقد انتهت معركة جنين بنصر للمقاومة يضاف إلى انتصاراتها السابقة، وأكدت أن العدو الصهيوني بكل ما يملك من قوة عسكرية هائلة هو أضعف من مقاومة شباب لا يملكون غير أدوات بدائية ضعيفة ولكنهم يملكون العقيدة والإرادة والعزيمة والإيمان بحقهم في أرضهم وبقضيتهم العادلة. وهذا هو الفارق بين صاحب الأرض والمُغتصب المُحتل الذي يرتجف رعباً وخوفاً من صاحب الأرض. ولهذا رأينا كيف تحوّل الهجوم الصهيوني الذي استهدف جنين والقضاء تماماً على المقاومة فيها، إلى حالة دفاعية هدفها فقط الخلاص والفرار.
لقد تعرى الجيش الصهيوني وانكشفت أكاذيبه وسقطت الهالة الكبرى التي أحاط بها نفسه طوال سنوات الاحتلال، فعلى الرغم من امتلاكه ترسانة عسكرية جبارة، وأحدث تكنولوجيات للمراقبة والتجسس على الفلسطينيين جواً وبراً وبحراً إلا أنه فشل في رصد تحرك المقاومين أو التنبؤ بعملياتهم ومن ثَم إحباطها. لقد ذابت وتآكلت أوهام الردع التي تغنّى بها كثيراً أمام إرادة وعزيمة بضع أفراد من المقاومين غير مؤهلين أصلاً للقتال، لكنهم يحملون سلاح الإيمان بحقهم في هذه الأرض الطيبة والعيش فيها بحرية وكرامة.
لقد أصبح مخيم جنين عاصمة المقاومة الفلسطينية في الشمال الفلسطيني، تشع بنورها على نابلس وطولكرم وغيرها، مثلها مثل غزة في الجنوب، لصلابة رجالها الأشداء. وليست هذه هي المرة الأولى التي تثبت فيها جنين عزيمة أبنائها بل سبقتها محاولات عدة للجيش الصهيوني لاقتحامها طوال العامين الماضيين، ولكنها كلها باءت بالفشل ونجحت جنين في الحفاظ على مخيمها من دنس المحتل، وعلى انتصارها الأكبر كان قبل ما يزيد على العشرين عاماً، عندما صدت الغزو الصهيوني في العملية المعروفة باسم “السور الواقي”، حينما حاولت المدرعات الصهيونية اقتحام المخيم لاغتيال خلية للجهاد الإسلامي فيه واستمرت عملية الاقتحام أكثر من 12 يوماً تكبد المهاجمون فيه خسائر فادحة بالإضافة لمقتل 24 جندياً من بينهم جنرالات وعمداء، فاضطرت قيادات الجيش الصهيوني الانسحاب بطريقة مهينة تقليصاً للخسائر كما فعلت في غزوها الأخير..
لقد أراد الكيان الصهيوني اجتثاث المقاومة وحينما فشل لجأ إلى بناء جدار الفصل العنصري، اعتقادا منه أنه بذلك يستطيع حماية كيانه بعزل الداخل الفلسطيني عن الضفة الغربية ونيران المقاومة، ولكن لا الجدار الفاصل حال دون وصول المقاومين إليه، ولا القبة الحديدية منعت صواريخ المقاومة من الوصول لعاصمته ومدنه الكبرى ومطاراته..
* * *
منذ أن وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو الملعونة في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993 مع الكيان الصهيوني بعد انتفاضة الحجارة التي زلزلت الأرض من تحت كيانه المزعوم وارتعب خوفاً وذعراً عليه، فجرى وهرول لعمل اتفاقية مسمومة لحمايته، تم الاعتراف بالكيان الصهيوني وأُسقط بند الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من ميثاق المنظمة القومي، مقابل سلطة وهمية لم تكن أكثر من تنسيق أمني بينها وبين الكيان الصهيوني ووعد بإقامة دولة لم ترَ النور، بل رأت مزيداً من سرقة أراضي تلك الدولة المزعومة وإقامة المستعمرات (المستوطنات) عليها حتى تقلصت مساحة الأراضي المتبقية للفلسطينيين إلى أقل من عشرين في المائة من أرض فلسطين التاريخية!
كما أدت اتفاقية أوسلو الملعونة لمزيد من القتل والاعتقالات لأبناء الشعب الفلسطيني المناضل تحت ذريعة التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، فكانت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2000، التي أعادت روح المقاومة للشعب الفلسطيني برعاية الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي عاد من أمريكا محبطاً بعد اجتماع كامب ديفيد مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني إيهود باراك برعاية الرئيس الأمريكية بيل كلينتون، وتأكد له أن لا جدوى من اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني وأنها كلها كانت أوهاما سرعان ما تبخّرت وطارت في الهواء بعد أن عُقدت عليها آمال عريضة بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، آمال عاش عليها الفلسطينيون على مدار سبع سنوات منذ اتفاقية أوسلو، فلما استيقظوا وجدوها أضغاث أحلام وأن الواقع يحتم عليهم العودة للنضال لتحرير فلسطين.
فقد قاد الراحل عرفات بنفسه الانتفاضة مع حركات المقاومة، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني لم تنته بحصار عرفات وقتله بالسم عام 2004 عقاباً له على انتفاضة الأقصى، ولم تتوقف بانسحاب الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة تحت وطأة المقاومة، فانتقم منها باغتيال كبار قيادات حماس (الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وغيرهما)، وشن ست حروب ضروس على القطاع. وفرض حصاراً شاملاً براً وبحراً وجواً على الشعب الفلسطيني في غزة بعد فوز حماس في الانتخابات النيابية عام 2007، ولكن كل هذا لم يفت من عضد المقاومة ولم ينل من عزيمتها ولم يضعف من قوة الشعب الفلسطيني المستعد للتضحية من أجل تحرير أرضه، وتحمّلَ أعباءً لا يمكن أن يتحملها أي شعب في العالم وعانى الكثير من أجل حريته واستقلال وطنه وكرامته وعزته..
لقد فشل الاحتلال الصهيوني في تركيع الشعب الفلسطيني في غزة وجنين ونابلس والقدس، وفشل في اجتثاث جذوة المقاومة التي تشتعل كل يوم ويزيد لهيبها في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم تؤد هجماته الوحشية على الشعب الفلسطيني إلا إلى زيادة عدد الشباب لتكوين كتائب جديدة للمقاومة، لا يمنعهم تخلي الأشقاء العرب عن قضيتهم العادلة ولا التواطؤ الدولي من حقهم في تحرير أرضهم المحتلة.
لا شك أن الأمل في هذا الشعب الفلسطيني، فهو شعب لا يُهزم ودائما وأبداً يسقط كل الحسابات ويغير كل المعادلات بإبداعاته وابتكاراته في وسائل المقاومة والنضال. لقد مات الصهاينة خوفاً ورعباً وهم أحياء، بينما قتلت الأباتشي الفلسطينيين وهم يناضلون ولم يتسرب الخوف إلى قلوبهم.
هذه الأجيال الجديدة من المقاومين لم تتلوّث بأوسلو ولم يعمل حسابها العدو الصهيوني وغابت عن مفكرته، إنهم أحفاد أحفاد الفلسطينيين الذين طُردوا من أرضهم وهُجّروا بعيداً عن فلسطين ولم تتكحل عيونهم برؤية فلسطين والعيش على أرضها الجميلة بين ربوعها وسهولها ووديانها وجبالها، ولكنها ساكنة في قلوبهم يعيشون فيها وتعيش داخلهم، في وجدانهم وفي فكرهم، أرضهم التي لن يتخلوا عنها ولتسقط مقولة القادة الصهاينة القدماء أمثال جولدا مائير التي قالت “الكبار سيموتون والصغار سينسون”.. لقد مات الكبار بعد أن سلّموا مفاتيح العودة للصغار وحمّلوهم الأمانة ورفعوا الشعلة من بعدهم.
الشعب الفلسطيني شعب لا يموت ولا ينهزم.. عاش الشعب الفلسطيني حراً عزيزاً..