في رحيلك نودع نجماً ساطعاً، وقائداً سياسياً وميدانياً فذاً، أيها النبيل الرمز، ابن جحاف الشامخ حيث يلقي السحاب مراسيه، ابن الضالع الأبية، إبن الجنوب الحر من وضع حياته ثمناً لحريته وخلاصه.
كيف سيكون الجبل من بعدك أيها الراحل وقد ألِفَ عودتك بعد كل غياب وكيف يلملم ظلك المنثور على القمم والمنحدرات والاودية والسهول البعيدة وكيف تهدأ الفصول وقد سجَّلَتْ خطاك وراكمتها منذ أن وضعت اقدامك الصغيرة ذات يوم في ساحة المدرسة، وأنت تلميذ في مقتبل العمر لا ترى من وطنك سوى أبجدية موزعة بين عفوية الصخر وغيمة تموز وسنابل الأرض، ومروراً بساحات التعليم والنضال والقيادة حتى رَمَتْ معاطفها الجبال ووضعتك في برزخ الراحلين إلى ابديتهم الخضراء.
لك هنآك رحلة عمر وضعتها في جدلية شاقة وعسيرة بين الأحلام الكبيرة وحال البلد الذي تناوبته المنعطفات وأجبرته أن يساكن جرح حاضره النازح من رحابة الفكرة إلى ضيق الواقع ومن الخيال الملحمي إلى الأغاني المختطفة. لكنك ومن أجل غد آخر وهبت كل شيء واستبقيت لروحك وهج الحلم تطارده ويطاردك تدركه ويدركك، تؤهله للواقع والحياة و يؤهلك للعطاء والتضحية، لتلحق بسيرتك هذه امجاد قلائل ممن زرعوا في حاضر شعوبهم الكثير من الأمل والعزم و وهبوا لذلك حيواتهم كاملة منذ أن تفتح وعيهم حتى انطفأت أبصارهم دون أن يدخروا شيء سوى تاريخهم الناصع. واثبتوا ان بين وجود الفرد ومصير البلد مسألة لا تقاس بالأزمنة وإنما بالفضاءات التي يشكلها الحلم ومخزون الأسئلة التي تفرضها التحديات.
هذا انت اخي احمد تتركنا واقفين أمام الجبل وأمام الريح نسير بكلتا قدمينا واحدة للأمل وأخرى مثقلة بالقيد الذي وهبت حياتك كلها لكسره.. ولم تكن يوما منسياً بين رصاصتين حين شردتك الغيوم السوداء ذات مساء موجع من عام ١٩٩٤ بل ذهبت مع رفاقك لتعيدوا معاً دورة الزمن وترسموا معالم الدرب استعداداً للحظة التاريخ المنتظرة. فكيف تأتي تلك اللحظة وقد رحلت ايها الرمز المتواضع؟ سوف ينقصها أنت وكل من رحلوا من الشهداء ومن افتقدهم الوطن في لحظات شديدة الاهمية… لكنكم جميعاً تركتم لرفاقكم من الزاد الفذ ما يكفي المسير حتى نهايات الطريق، ولم تعِدوا ارواحكم بالسكينة حتى يتحقق خلاص شعبكم من الكارثة ويخرج من جحيم المراحل.
اخي احمد لم يكن الوقت جيدًا كما حلمنا ولم تكن الارض بسيطة كما استوعبتها مداركنا الصغيرة في ذلك الزمن البعيد كما ان المراحل لم تأت بما اشتهى الرفاق لهذا كنت ومن معك خلاصة الرجال الاوفياء الذين اخذوا على انفسهم عهداً اخيرا بان لا يقفوا عند مفترق في انتظار عناوين اخرى والنظر إلى الدنيا من زوايا الذات بل اقتحمت الصعب ووضعت دمك رهن تراب الارض فلا مقدس سوى عودة الأوطان والحفاظ عليها ولا بوصلة سوى مستقبل الأجيال بالمعاني البيضاء الواضحة خارج عمق الكلمات الملتبسة. لقد تركت في رفاقك روح النبل والمسئولية والبساطة والإبداع وجمعت من الخصال ما تمكِّن قائداً سياسياً بأن يحظى بمحبة الناس وتقديرهم واجماعهم ليبقى نموذجاً حياً ومثالاً فريداً.
مسيرتك التعليمية و ثقافتك و قدراتك القيادية عمقتها تجربة قاسية وصعبة و أثْرَتها نضالات في مواقع مختلفة ومسؤوليات متعددة وفي ظروف معقدة حتى صرت واحداً من أهم الرموز السياسية في منطقة شديدة الحساسية نظراً لتاريخها وجغرافيتها فكنت من أهم القيادات الملهمة إلى جانب عدد من رفاقك في الحزب الاشتراكي.. وفي ازمنة حرجة ومعقدة للغاية سجلت حضوراً نوعياً ومتميزاً وحملت صفة القائد الذي لا يذهب مع الرياح العابرة بل يسكن العاصفة.
اخي احمد لم يُكتب لنا ان نكون غير متباعدين في المكان بسبب ظروف الحياة لكن الزمان عهد لنا بهذه الاعمار في جيل واحد عايش الكثير من التقلبات الرهيبة وكان حضورك ورفاقك في الصفوف الامامية يمثل درجة عالية من الأمان والطمأنينة بأن رجالاً عاهدوا وطنهم على مناصرته حتى آخر لحظة ووضعوا حياتهم في المحك في كل وقت لحمايته واستعادة دولته.
وداعا أيها الفارس القدوة وداعاً أخي أحمد ناشر حسن.