ما كنا نعتبره «تحرير محافظات الجنوب » بات خلفنا بعشر عجاف، بينما غرق الكل ومازال في محطة الانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع الغامضة، وفي الانتظار يموت الزمن وتلف الأحلام خيوط رمادية، وفي الانتظار يصبح البؤس كائناً لصيقاً، ويصير «الليل عديم الطعم بدون هموم ويشطح «دعاة الموضوعية» في تبسيط المعاناة، وفي الانتظار تصبح الوطنية شارة على البرانيط وليست سلوكا وتضحية، وفي الانتظار يجلجل وهم السلطة و «الشراكة» العدمية و يتحول المديح الإعلامي لمآثر الشهداء والتضحيات الميدانية نحو القادة الأحياء ليصبح فولكلوراً ثورياً له وقع ثقيل على هواجس من عاشوا تجارب الماضي.
بعد حرب 2015م صارت هناك قناعات راسخة في غياب بيئة حقيقية لإنجاح الجامع التوافقي بأن وجود كيان سياسي جنوبي قوي وثابت، وسط محيط من عدم الاستقرار والحروب الداخلية والمصالح الخارجية المتضاربة، سيكون مهما للقضية الجنوبية، وبدونه قد يدخل الجنوب في فراغ استراتيجي وتزدهر مكونات متصارعة وذات ولاءات متباينة، وقد تأخذ الجنوب مرة واحدة إلى مصائر مهلكة أقلها التمزق والتصارع والارتهان المتعدد الأوجه، وهكذا تأسس المجلس الانتقالي وأصبح بما له وما عليه ضرورة جنوبية.
الآن بعد مشوار السنين وتحديات الواقع لا يزال انتصار المجلس الانتقالي لقضية الجنوب في هذه اللحظة التاريخية مرهونا بتحقيق خطى كبيرة أولها اعتماد نهج التغيير والتصحيح والمراجعات والتخفف من عبء المركزية، وأن يحرص على تقديم نموذج واعد ونزيه ومتوازن يطمئن له الداخل والخارج ويعزز الثقة بأن الجنوب قادر على بناء دولة مدنية فدرالية عادلة وثابتة، أما الثانية تتركز في العمل على مواصلة الحوار الجنوبي بقدر الإمكان، والعمل على تشكيل اصطفاف وطني لمواجهة التحديات المتنامية. تلك لا تندرج في ما يمكن اعتباره تنظيرا أو تشفيرا وإنما هي «ألف باء» الضرورات البديهية لأن الجنوب ببساطة شديدة لا يتمتع بفائض قوة وإنما بفائض خصوم ويظل غير مهيأ لتحقيق أهدافه إن (هم) وجدوا إمكانات للالتفاف على قضيته من داخله.
مثلت المحطة الأولى من الحوار الجنوبي الجنوبي بداية ملهمة خاصة في بلد تعمل قوى داخلية وخارجية على إضعاف نسيجه وتحويل أرضه إلى ساحة لصراعات الآخرين انجز الحوار خطوة لقد وأطماعهم. «تأسيسية ناجحة وبالغة الأهمية أنعشت سقف التوقعات الإيجابية بأن يتم الانتقال إلى مستويات حوار جديدة مع بقية الأطراف ذات الخطوط المتباينة بهدف تنمية وتطوير نقاط التوافق والقواسم المشتركة وتطويق الخلافات التي يستغلها ويوظفها الآخرون.
ثمة نخب جنوبية ليست على وفاق مع الانتقالي وكذلك نخب تدخل ضمن الكتلة الرمادية»، وتلك مسألة ليست غير طبيعية نظراً للإرث السياسي الجنوبي وما خلفته أزمنة الوحدة وتداعيات الحرب الأخيرة، وقد تأخذها ولاءات أو مخاوف الماضي أو حتى جروح نرجسية إلى خارج طموحات القاعدة الشعبية، وهذا أمر مؤسف ومع ذلك فإن تلك الظاهرة ليست مدعاة للانكفاء أو للتنافر المستدام وإنما تعزز الحاجة الملحة إلى إيجاد مقاربات وأنماط حوارية لكسر الحواجز وبناء الثقة، إذ لا مناص أمام الجميع من تضييق الخلاف ونبذ التنافر وتعزيز التفاهم والتنسيق حول القضايا المشتركة والحفاظ على التضامن الشعبي والنسيج الاجتماعي في الجنوب، فمازال الخطر الأكبر ماثلاً أمام الجميع دون استثناء.
إن من أسوأ ما يمكن حدوثه يكمن في سوء تقدير القيادات الجنوبية للوضع الراهن والذي قد يتطور بصورة مفاجئة خاصة مع تسارع الأحداث الإقليمية والمتغيرات الجيوسياسية التي تحمل لهذا الشرق طاقات وديناميات جديدة يصعب رصد نتائجها وتداعياتها. لهذا يعتبر التحرك باتجاه الإصلاحات الداخلية وترتيب البيت الجنوبي أولوية مطلقة وإعادة الأمل للناس خاصة مع إحساسهم بأنهم متروكون في غمرة من اليأس الأوضاع وانعدام أي مؤشر لحلحلة السياسية والمعيشية عداك عن تحقيق الآمال العظام.
الانتقالي كيان جنوبي كبير ومحوري لهذا يتعين عليه أن «لا يهدأ في مستقر يطمئن إليه بل أن يتجاوزه نحو مستوى أعلى وأكثر ضمان، وعلى من يحرص على نجاحه أن لا يغمض عينيه مستنداً إلى ما يظنها صفوة دائمة وكاملة لا يأتيها الباطل، فالنقد البناء وسيلة فاعلة وجرأة مطلوبة ومبررة لأن التقييم والتغيير والإصلاح سنة الثبات والاستمرارية وإلا سقطت الكيانات الوطنية واستحالت رماداً للمراحل.