في 15 أكتوبر، تم الاحتفال باليوم العالمي للمرأة الريفية. جاءت هذه المناسبة في ظل أوضاع إنسانية وخيمة يعيشها اليمنيون، وفي مقدمتهم النساء والفتيات الريفيات. الحرمان من التعليم الأساسي أو الجامعي هي سمة غلبت على حياة المرأة الريفية اليمنية في كل المحافظات بدون استثناء، مع تصدر لبعض المجتمعات الأشد قبلية أو فقرًا.
الأسباب الجذرية وراء حرمان فتيات الريف اليمنيات من التعليم هي أسباب متداخلة ومتقاطعة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فبينما تقف العوامل المرتبطة بالفقر والاقتصاد في طليعة هذه الأسباب، تتكاثف إلى جانبها عوامل اجتماعية مثل العادات والتقاليد السلبية، والنظرة العامة القاصرة لأهمية تعليم الفتيات. ويخلق هذا المزيج من العوامل والأسباب واقعًا من بين الأسوأ حول العالم.
وبالرغم من أن المادة “6” من القانون رقم 45 للعام 1992 في الدستور اليمني تعتبر “التعليم، إلى جانب كونه استثماراً بشرياً تنموياً بعيد المدى، فهو حق لكل مواطن بغض النظر عن جنسه”. إلا أن هذه النصوص لا تعكس الواقع اليمني، حيث لم يتمكن القانون من إحداث تغيير ملموس في الواقع.
الزواج المبكر
يُعتبر الزواج المبكر من أبرز الأسباب التي تؤدي لحرمان الفتاة الريفية اليمنية من التعليم. هذه الممارسة الاجتماعية المتوارثة والهدامة يعززها غياب النصوص والضوابط القانونية الواضحة التي تجرمها أو تحد منها، لاسيما بعد التعديلات التشريعية التي حدثت بعد الوحدة اليمنية عام 1990 والتي كرست تفسيرات دينية فرضتها قوى داخل السلطة، وأسهمت في انتشار الزواج المبكر.
وتحدث كثير من حالات الزواج المبكر بدوافع اقتصادية متعلقة برغبة الأسر الريفية في الاستفادة من مهور الزواج، والتخلص من أعباء الفتيات بما في ذلك تكاليف التعليم. لكن هناك أيضًا دوافع اجتماعية تدفع حتى الأسر الميسورة لتزويج الفتيات في سن مبكرة، بما في ذلك زواج الأقارب والزيجات المرتبطة بالأنساب والروابط القبلية.
فاطمة*، إحدى الفتيات الريفيات اليمنيات اللواتي تعرضن للزواج المبكر والحرمان من التعليم. تنحدر فاطمة من إحدى القرى وسط محافظة أبين، وقالت لمركز سوث24 إن إخوتها الذكور الأكبر سنًا أجبروها على ترك التعليم في سن مبكرة. وفقًا لها، كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو وفاة والدها، لتترك الصف الخامس في المرحلة الابتدائية فقط بعد عام من حدوث ذلك.
وقالت فاطمة: “أمي كانت تقف مع إخوتي وتوافقهم الرأي، رغم إلحاحي على إكمال تعليمي. كانت تقول لي في كل مرة أفتح معها الموضوع إن مصيري هو منزل زوجي ولا حاجة لي لإكمال دراستي.”
وفي سن الـ 12، توقفت سماح* عن التعليم نظرًا للشرط الذي حدث فور خطبتها من أحد الرجال. الفتاة التي تنحدر من ريف الصعيد في محافظة شبوة قالت لمركز سوث24 إنها تزوجت في عمر 15 عامًا بعد فترة خطوبة امتدت ثلاث سنوات، تركت خلالها المدرسة بإجبار من والدها وإذعانًا لشروط ورغبة زوجها الحالي.
وأوضحت أن هذا الزواج المبكر هو زواج من أحد أقاربها من جهة الأم. واليوم، في عمر 18 عامًا، وهو عادة عمر انتهاء المرحلة الثانوية في اليمن وبدء الالتحاق بالتعليم الجامعي، فإن سماح أم لثلاثة أطفال لا يفصل بينهم سوى أشهر الحمل التسعة.
وبحسب تقرير صادر في العام 2021، قالت منظمة اليونيسيف إن 72.5 في المائة من الفتيات في اليمن يتزوجن في سن مبكر “دون سن 18”. وبحسب التقرير، فإنه من المستحيل على الفتاة التي تتزوج مبكرًا مواصلة تعليمها.
أسباب اقتصادية
لا يعد تزويج الفتيات في سن مبكر المعضلة الوحيدة التي تواجههن في الريف اليمني وتتسبب بحرمانهن من التعليم، بل إن غياب البنية التحتية المناسبة، مثل المدارس المخصصة للإناث وغياب الكادر التعليمي النسائي، يُعتبر أحد الأسباب الاقتصادية المرتبطة بأداء الدولة، والتي تتسبب بحرمان نسبة كبيرة من الفتيات من التعليم.
في محافظة شبوة في جنوب اليمن، وتحديدًا في منطقة المصينعة الريفية وضواحيها، وصل عدد الفتيات في التعليم الأساسي لهذا العام إلى حوالي 1,600 طالبة، لكن المرحلة الثانوية لا تضم أكثر من 200 طالبة فقط، وفقًا لتصريحات مدير مكتب التعليم في المحافظة سالم حنش لمركز سوث24.
تظهر هذه الأرقام الفجوة الهائلة بين التعليم الأساسي والثانوي بالنسبة للفتيات الريفيات، وهي فجوة تزداد اتساعًا في التعليم الجامعي حيث إنه من المرجح أن عدد قليل جدًا من هؤلاء الفتيات قد ينجح في الحصول على تعليم جامعي. وقد تساعد جامعة شبوة الحكومية التي افتتحت خلال الأعوام الأخيرة في تسهيل وصول الفتيات للتعليم الجامعي.
وكيلة مدرسة المصينعة للبنات في محافظة شبوة، أروى باعلي، قالت لمركز سوث24 إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة تعد واحدة من أهم الأسباب التي أصبحت تعرقل تعليم الفتيات في المدينة وضواحيها. مشيرة إلى أن عددًا كبيرًا من الفتيات يتوقفن عن إكمال تعليمهن الثانوي والجامعي بسبب بُعد المدارس عن قراهم. بالإضافة إلى غياب الجامعات في المنطقة، وضعف القدرة المادية لأهاليهن على تحمل تكاليف المواصلات إلى مدينة عتق حيث جامعة شبوة.
وأشارت الوكيلة إلى أن خريجات دفعة 2022، 2023 من مدرسة المصينعة لم يواصلن التعليم الجامعي، باستثناء طالبة واحدة. أما خريجات دفعة 2023/2024 فلم يستطعن جميعاً الذهاب إلى الجامعة.
وأضافت: “أما بالنسبة للتعليم الثانوي في الأرياف، فإن مدرسة خمار، في إحدى القرى التابعة للمصينعة، تخرجت منها دفعة كبيرة من الصف التاسع للعام 2023/2024، ولم تلتحق بالثانوية هذا العام في مدرستنا سوى خمس طالبات فقط، بسبب صعوبة تكاليف المواصلات.”
ووفقًا لمدير مكتب التعليم في شبوة، فإن تراجع أعداد الفتيات الملتحقات بالتعليم الثانوي في المناطق الريفية بالمحافظة يعود أساسًا إلى نقص عدد المعلمات من النساء، وهو ما يدفع الأهالي المحافظين لإخراج بناتهم في مرحلة الثانوية أو حتى قبلها نظرًا لعدم تقبل فكرة تعليمهن من قبل المعلمين الرجال.
وأشار المسؤول المحلي إلى أن نقص الكوادر التعليمية المتخصصة بتدريس الفتيات في الريف يمثل تحديًا كبيرًا، حيث تتطلب الأعراف والتقاليد وجود طاقم تعليمي نسائي مستقل. وأشار إلى أن نقص الفصول الدراسية المستقلة أيضًا أحد الأسباب الرئيسية، إذ لا تهتم الحكومة كثيرًا ببناء مدارس خاصة بالإناث أو حتى فصول مستقلة ضمن المدارس المختلطة.
وأعرب عن تطلعه لتحسن تعليم الفتيات الريفيات خلال الفترة القادمة عبر المساعي المستمرة لتوفير معلمات وبيئة تعليمية مناسبة ومتكيفة.
وفي مديرية جحاف بمحافظة الضالع في جنوب اليمن، التي بلغ عدد سكانها في عام 2021، وفقًا لإحصائيات صندوق الأمم المتحدة للسكان، 39,413 نسمة، منهم 18,541 إناث و20,872 ذكور، قال مدير مكتب التربية بالمديرية، رائد قريع، لمركز سوث24 إن المديرية وضواحيها تواجه تحديات في البنية التعليمية، خاصة فيما يتعلق بتعليم الفتيات.
وأشار قريع إلى أن المديرية تضم 23 مدرسة أساسية، و4 مدارس ثانوية، ومدرسة واحدة تجمع بين التعليم الأساسي والثانوي. من بين هذه المدارس، توجد فقط 4 مدارس إعدادية مخصصة للبنات، ولا توجد أي مدرسة ثانوية خاصة بالفتيات. إلا أن المديرية تحتوي على 4 مدارس ثانوية مختلطة للذكور والإناث.
وفيما يتعلق بعدد الطلاب، أضاف أن إجمالي عدد الطلاب في التعليم الأساسي على مستوى المديرية يبلغ 5,824 طالبًا، منهم 3,048 ذكور و2,779 إناث. أما في التعليم الثانوي، فيبلغ عدد الطلاب الذكور 1,339، مقابل 552 من الإناث.
دلال*، فتاة ريفية من مديرية الشمايتين بمحافظة تعز بشمال اليمن خسرت فرصها الدراسية نتيجة تعرض والدها لوعكة صحية أقعدته عن العمل. لكن دلال لم تكن وحدها ضحية هذا الحادث المؤسف، فحتى أخويها الاثنين الذكور تركوا المدارس.
وقالت دلال: “كان يفصلني عن المرحلة الثانوية عامان فقط. كان أبي يشجعني باستمرار ويتمنى أن أصبح معلمة حين أكبر، إلا أن هذا الحلم قد تبدد في لحظة، وأصبح وجعي وجعين، وجع خسارتي لدراستي والآخر قلقي المستمر من فقدان أبي أيضًا”.
وتلفت قصة دلال إلى الوضع السيء للتعليم بشكل عام في اليمن، خاصة مع عقد الصراع الأخير الذي لم تنته فصوله بعد.
وتشير إحصائيات صادرة عن صندوق ملالا لدعم تعليم الفتيات إلى أن أكثر من مليون فتاة يمنية باتت خارج المدرسة، ما يمثل 28% من إجمالي الفتيات في سن التعليم. وتفصّل الإحصائيات أن نسبة التسرب بين الفتيات في المرحلة الابتدائية بلغت 20%، وارتفعت في المرحلة الإعدادية إلى 34%، بينما وصلت إلى 68% في المرحلة الثانوية.
تقرير منظمة اليونيسف السالف ذكره، أشار إلى أن 84.5% من الأطفال في اليمن في “حالة من الفقر المالي. وعلى المدى الطويل، سيستمر هذا الوضع في إطالة أمد الفقر”. وأوضح التقرير أن “الأطفال واليافعين الفقراء والضعفاء هم أكثر عرضة لعدم الذهاب إلى المدرسة إطلاقًا، والتسرب من المدارس وعدم العودة إلى الدراسة”.
وذكرت منظمة إنقاذ الطفولة في دراسة صدرت في العام 2024، أن ثلث الأسر التي شملتها الدراسة في اليمن لديها طفل واحد على الأقل ترك المدرسة خلال العامين الماضيين. 20% من تلك الأسر أفادت بعدم قدرتهم على تحمل تكاليف الرسوم المدرسية الشهرية وتكلفة الكتب المدرسية.
وبحسب التقارير الأممية، فإن أكثر من 4.5 مليون طفل يمني لم يلتحقوا بالمدارس في العام 2023، بينما تضررت أكثر من 2426 مدرسة وأصبحت غيرة قادرة على استقبال الطلاب بسبب استخدامها كمأوى أو لأغراض أخرى غير تعليمية.
تعليم الفتيات الريفيات والمناخ
تتقاطع تداعيات التغير المناخي في اليمن مع عوامل حرمان الفتيات الريفيات من التعليم بوضوح. وهو ما يؤصل لهذه الأزمة بوصفها أزمة شاملة تطال كل مناحي الحياة.
الاستشارية في الصندوق الاجتماعي للتنمية بمحافظة حضرموت، مروى صالح، أوضحت لمركز سوث24 أن الفتيات في القرى التابعة لمديريات مثل ساه والضليعة ومناطق أخرى غالبًا ما يتركن مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية للذهاب لجلب المياه لأسرهن، بسبب جفاف الخزانات الأسمنتية المخصصة للمياه في تلك المناطق.
تناقص مياه الأمطار، وتدهور شبكات المياه أو نقصانها مقابل الزيادة المستمرة في عدد السكان خلقت أزمة مياه تقع في الأغلب على عاتق الفتيات والنساء. وأشارت الخبيرة إلى اضطرار كثير من الأسر إلى سحب بناتهم من المدرسة، والاستعانة بالصغيرات منهن لتوفير المياه.
وأشارت دراسة صادرة عن مركز سوث24 في أبريل 2024 إلى تداعيات صحية ونفسية واقتصادية واجتماعية لأزمة المياه في محافظة الضالع، وبشكل رئيسي على النساء والفتيات المسؤولات لأسباب اقتصادية وعرفية عن توفير المياه، وهو ما يؤدي إلى نسبة كبيرة من حالات الزواج المبكر المرتبطة بهذه المشكلة، والحرمان من التعليم.
بالإضافة لذلك، ناقشت دراسة صادرة عن مركز سوث24 في سبتمبر 2024 تأثيرات أزمة التغير المناخي على سبل عيش النساء في اليمن. وتوصلت الدراسة التي استندت على عمل ميداني في محافظات عدن وحضرموت والمهرة إلى أن تغيّر المناخ أدى إلى تحديات كبيرة للنساء، بما في ذلك انخفاض الدخل، وارتفاع أسعار الغذاء، وتضرّر الممتلكات.
ويحذر أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، د. محمود البكاري، من التداعيات الوخيمة للحرمان من التعليم على فتيات الريف والمجتمع اليمني بشكل عام. وقال لمركز سوث24: “تسرب الفتيات الريفيات وعدم التحاقهن بالتعليم سيؤدي إلى زيادة الجهل والأمية بين النساء، مما يعني تراجع المجتمع اجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، وصحياً”.
وأردف: “التعليم هو أساس التطور والتنمية في أي مجتمع. ويشكل الريف في اليمن النسبة العظمى من المجتمع، ولذلك تزداد الأعباء مع تأخر عملية التطوير والتمدين، ومن ذلك تحقيق نهضة تعليمية”.
وفي المحصلة، يمكن القول إن حرمان الفتيات الريفيات في اليمن من التعليم يتطلب معالجات مكثفة في مقدمتها المعالجات الاقتصادية التي ستساعد في حلحلة كثير من التحديات والعراقيل، حتى تلك ذات الخلفية الاجتماعية والثقافية. وقد تتطلب هذه المعالجات برنامجًا وطنيًا شاملًا لتنمية التعليم الريفي، يشمل بناء المدارس في المناطق النائية وخلق مزيد من الوظائف الحكومية للمعلمات من النساء.