“من غير المستبعد أن تستغل إيران كل ذلك لإثارة ملف الإرهاب بصورة تضع الغرب أمام حقيقة أن الاهتمام بالحرب الإسرائيلية – الإيرانية منح التنظيمات الإرهابية فرصة لإعادة ترتيب صفوفها..”
تواجه إيران اليوم تحدياً وجودياً غير مسبوق يهدد المكتسبات التي حققتها على مدار عقود. ففي حين كان الملف النووي محوراً للصراع مع الغرب، تمكنت طهران من بناء شبكة واسعة من الميليشيات المسلحة في المنطقة، والتي باتت تمثل عنصرًا حيوياً في استراتيجيتها الردعية الإقليمية.
تلك الميليشيات، المنتشرة في دول مثل العراق ولبنان واليمن، أصبحت بمثابة امتداد عسكري لإيران، حيث تلقت الدعم اللوجستي والتدريبي اللازم لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق. وقد تجلى ذلك بوضوح خلال الحرب الأخيرة في قطاع غزة، إذ لعبت هذه الميليشيات دورًا محوريًا في الصراع، بزعم إسناد المقاومة في القطاع.
لكنَّ إسرائيل، التي أكدت منذ اليوم الأول علاقة إيران بعملية السابع من أكتوبر في غلاف غزة، وضعت كل عمليات الاستهداف التي طالتها من اليمن ولبنان والعراق في سياق تقويض وجودها، ثم تحركت عسكريًا واستخباراتيًا بناء على هذا الاعتقاد، فحوَّلت غزة إلى مدينة غير صالحة للحياة، وقضت على جل قيادة الصف الأول في حزب الله، ولديها مخططات لليمن والعراق. كل ذلك مع استمرار العمليات داخل إيران. [1]
ومع أن الغرب تعامل مع إيران وأذرعها بسياسة التدليل طوال السنوات الماضية، فحال دون تحرير مدينة الحديدة من الحوثيين عام 2017، ومنع القوات الحكومية من دخول صنعاء بعدما كانت قد وصلت إلى فرضة نهم شرق العاصمة، وسلَّم العراق لمليشيا موالية لطهران، إلا أن الأمر هذه المرة متعلق بأمن إسرائيل. قد لا يكون الغرب مع ما تقوم به إسرائيل ضد إيران وأذرعها، بهذا الشكل على الأقل، إلا أنه يجد صعوبة في ثني نتنياهو عن إكمال مخططه. [2]
وإذا كانت إيران غير قادرة على مواجهة إسرائيل عسكريًا، لحماية نفسها والمليشيا الموالية لها، وغير قادرة على تحريك الغرب للضغط على تل أبيب، فمن غير المستبعد أن تلجأ إلى تحريك ملفات ثقيلة، كملف الإرهاب الذي تشير التقارير إلى أن قيادة تنظيمه تتواجد في طهران، وتدير أفرعه منها، بإشراف من الحرس الثوري الإيراني.
من المهم الإشارة هنا إلى أن العلاقة الأخيرة بين تنظيم القاعدة وإيران ليست عقائدية، وإنما تكتيكية ومبنية على تقاطع مصالح، وهو ما يزيد من احتمال مشاهدة أثرها على مسرح الأحداث خلال الفترة القادمة.
مراحل علاقة القاعدة بإيران
بدأت العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة في وقت مبكر، إذ سمحت طهران لقيادات وعناصر التنظيم بالمرور عبر أراضيها، إلى أفغانستان أو منها، وفي مقابل ذلك، لم ينفذ التنظيم عمليات ضد أهداف إيرانية، داخل أو خارج إيران.
لا أحد يدري ما إذا كان هذا الأمر قد تم بموجب اتفاق أو تفاهم مباشر بين الطرفين، أو بمبادرة من طرف ورد جميل من طرف آخر، لكنَّ المؤكد هو أن هذا العلاقة تطورت لاحقا وبشكل متدرِّج. والحديث عن هذه العلاقة لا يستند فقط إلى معلومات استخبارية، وإنما إلى معلومات من داخل التنظيم نفسه، وأيضا من جهات كانت قريبة منه، مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي عاير القاعدة بعلاقتها بطهران. فرع داعش في اليمن، كان قد اتهم [3] الفرع اليمني للقاعدة بتسهيل مرور المشتقات النفطية إلى جماعة الحوثيين في صنعاء من خلال ميناء المكلا إبان سيطرته على ساحل حضرموت.
لكنَّ العلاقة تطورت بشكل لافت حين آلت أمور التنظيم إلى القيادي أحمد سيف العدل بعد مقتل أيمن الظواهري بغارة أمريكية في العاصمة الأفغانية كابل عام 2022. كان سيف العدل قد خرج من سجنه في إيران بموجب صفقة مع فرع القاعدة في اليمن تضمنت الإفراج عن الملحق الثقافي الإيراني في صنعاء أحمد نكبخت. غير أن سيف العدل، ووفق كثير من المصادر، رفض مغادرة إيران، وتحاشت القاعدة إعلانه زعيمًا لها بشكل علني، بسبب وجوده في الأراضي الإيرانية، وهو أمر من شأنه أن يشكِّل حرجًا لها، ويعزز التهم حول ارتباطها بالنظام الإيراني. [4]
يمكن القول إن أثر ذلك ظهر بوضوح في اليمن، حيث أوقف تنظيم القاعدة عملياته ضد جماعة الحوثيين بشكل كلي ابتداءً من العام 2022، وفق الباحثة والخبيرة بالشأن اليمني إليزابيث كندل. خلال الفترة ذاتها، حصل التنظيم على طائرات مسيرة، إذ استخدمها لأول مرة ضد القوات الجنوبية. وترجح مصادر عديدة حصوله عليها من إيران. [5]
تؤكد هذه الوقائع وجود علاقة تعاونية عميقة بين إيران وتنظيم القاعدة، تتجاوز مجرد التسامح المتبادل إلى التعاون الاستراتيجي. هذا التعاون يثير العديد من التساؤلات حول الدور الإيراني في دعم التنظيمات المتطرفة، واستغلالها، وتأثير ذلك على الأمن والاستقرار في المنطقة.
أرضية مشتركة
إضافة إلى ما تقدَّم، تلمس إيران في موقف تنظيم القاعدة من الأنظمة العربية والغرب أرضية مشتركة يمكن استثمارها لبناء تحالف ضمني، يخدم أهدافها الاستراتيجية في المنطقة. وقد استغلت إيران حرب غزة الأخيرة كفرصة لتعميق هذا الترابط، من خلال المشاركة المباشرة وغير المباشرة في الصراع، ضمن إطار ما أسمته “وحدة الساحات”.
وتعتبر إيران أن توسيع دائرة هذا التحالف، الذي يظهر كجبهة دعم لغزة، يساهم في تعزيز مشروعها الإقليمي الذي يواجه تحديات متزايدة. ولا شك أن مشاركة التنظيمات السنية المتطرفة في هذا المشروع، وإن كانت منفصلة عن الأذرع الإيرانية بشكل رسمي، تعمل على إعادة ترتيب أولويات الغرب، مما يخفف الضغوط الأخيرة على إيران وحلفائها.
أما استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، فتتضح بشكل جلي من خلال التركيز على مكافحة الإرهاب، وهو ما تستغله إيران لتقليل الضغوط الدولية عليها.
إثارة ملف الإرهاب
استنادا إلى ما تقدم، تُثار تساؤلات حول إمكانية إقحام إيران لتنظيم القاعدة في الصراع القائم بصورة تخفف عنها وعن أذرعها في المنطقة الضغط العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، خصوصا وأن ملف الإرهاب يمثِّل أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تُستغل أية عمليات في هذا السياق من قبل واشنطن للضغط على تل أبيب.
ويبدو أن إيران تعرف جيدًا كيف وأين ومتى تُوجه التنظيم لإثارة القلق الغربي. لا يقتصر الأمر على تنظيم القاعدة، فلدى إيران القدرة على استدراج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بصورة غير مباشرة وإخراجه إلى دائرة الضوء مجددًا. من المهم الإشارة إلى أن تنظيم الدولة يتخذ موقفًا متطرفا من النظام الإيراني، بعكس القاعدة.
بالنسبة إلى تنظيم القاعدة، يمكن أن تتجه إيران إلى أفرعه النشطة، في اليمن والصومال وسوريا. لدى إيران أذرع شيعية في اليمن وسوريا، ولهذه الأذرع علاقة وتواصل مع أفرع التنظيم، أما الصومال، فالتنسيق والتعاون بين حركة الشباب وبين إيران عبر جماعة الحوثيين في اليمن قائم. وقد كشفت وسائل إعلام غربية في وقت سابق، عن تزويد الجماعة للحركة بطائرات من دون طيار وأسلحة لتنفيذ عمليات بحرية في المحيط الهندي. [6]
في هذا السياق، قال المبعوث الأمريكي لدى اليمن، ليندركينغ، في 31 أكتوبر 2024، إن إحدى التداعيات المؤسفة للنزاع في غزة هي أن جماعة الحوثيين ضاعفت من اتصالاتها مع الجهات الفاعلة الخبيثة الأخرى في المنطقة وخارجها. مضيفا أن “علاقة الحوثيين مع حركة الشباب الصومالية أصبحت قوية جدًا حيث يبحث الطرفان طرقًا لزيادة مخاطر وتهديد حرية الملاحة في البحر الأحمر”. [7]
تجدر الإشارة هنا إلى أنه ومنذ تولي أحمد سيف العدل زعامة تنظيم القاعدة، باتت إيران أكثر قدرة على إدارة أفرع التنظيم من خلاله بما يخدم مصالحها. من غير المستبعد أن تستغل إيران كل ذلك لإثارة ملف الإرهاب بصورة تضع الغرب أمام حقيقة مفادها أن الاهتمام بالحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية منح التنظيمات الإرهابية فرصة لإعادة ترتيب صفوفها. يمكن أن تتعاطى الولايات المتحدة مع أية حرب ببرجماتية ما لم يكن لها تداعيات على ملف مكافحة الإرهاب. من السهل أن تزود طهران الفرع اليمني للقاعدة، وحركة الشباب الصومالية، بأسلحة تمكنها من تنفيذ عمليات ضد الملاحة في البحرين الأحمر والعربي.
ولا شك أن الولايات المتحدة بذلت جهودًا مضنية خلال السنوات الماضية لإضعاف تنظيم القاعدة، ولن تسمح بعودته إلى سابق عهده من خلال استغلال انهماكها بالتطورات والمستجدات الأخيرة.
تقرير فريق الخبراء
أثناء كتابية التحليل، صدر في أكتوبر تقرير نهائي جديد عن فريق التحقيق التابع للجنة العقوبات المعنية باليمن في مجلس الأمن الدولي، وكشف عن تفاصيل صادمة حول طبيعة العلاقة المتشابكة بين جماعة الحوثي وتنظيمي القاعدة في شبه الجزيرة العربية وحركة الشباب الصومالية.
أكد التقرير، استنادًا إلى مصادر موثوقة، وجود تحالف استراتيجي وثيق بين الحوثيين والقاعدة يتميز بتعاون عميق في المجالات الأمنية والاستخباراتية. كما تضمن هذا التعاون توفير ملاذات آمنة لعناصر كلا الطرفين، وتعزيز المواقع العسكرية، وتنسيق العمليات الهجومية المشتركة ضد القوات الحكومية اليمنية المعترف بها دوليًا.
التقرير لفت إلى أن هذا التعاون تطور بشكل ملحوظ منذ بداية عام 2024، حيث باتت الجماعتان تنسقان عملياتها بشكل مباشر. كذلك، كشف عن اتفاق بين الطرفين ينص على قيام الحوثيين بتزويد القاعدة بأسلحة متطورة، بما في ذلك طائرات مسيرة وصواريخ حرارية وأجهزة متفجرة، بالإضافة إلى تقديم التدريب لمقاتلي التنظيم.
كما أشار التقرير إلى أن نطاق التعاون بين الطرفين يتجاوز تبادل الأسلحة والتدريب، حيث ناقشت الجماعتان إمكانية قيام القاعدة بتقديم دعم لوجستي للحوثيين في تنفيذ هجمات بحرية. [8]
هيئة تحرير الشام
أما هيئة تحرير الشام في سوريا (جبهة النصرة سابق)، ورغم انفصالها المعلن عن تنظيم القاعدة، فتظل مرتبطة فكرياً وعقائدياً به بشكل وثيق. فالتنظيم، الذي كان يعتبر الجبهة فرعه في سوريا، لم ينقطع تأثيره عن أيديولوجيتها وعملياتها. بمعنى أن إعلان الانفصال عن القاعدة، والذي جاء في سياق التنافس على النفوذ في المنطقة وتجنب الضربات الجوية للتحالف الدولي، لم يؤد إلى قطيعة حقيقية. علاقة الهيئة بالقاعدة، وإن كانت غير معلنة، تبقى قوية، مما يجعلها عرضة للتأثر بأي تحولات في سياسة التنظيم الأم، بما في ذلك موقفه من إيران. هذا الارتباط العضوي يجعل من الممكن تحريك الهيئة للقيام بأدوار محددة، داخل سوريا أو خارجها، تلبية لمصالح القاعدة الاستراتيجية.
قبل أيام، نقلت الوكالة الألمانية “دي دبليو” عن مصادر أمنية قولها إن النمساوي، الذي أحبطت السلطات الألمانية محاولته لاستهداف القنصلية الإسرائيلية في ميونخ وهو من أصل بوسني، هو على صلة بجماعة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) المسلحة التي تركز نشاطاتها عادةً في سوريا. [9]
تنظيم داعش
فيما يتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية، شهد عام 2024 تصعيدًا ملحوظًا في أنشطة التنظيم، لاسيما في المناطق الصحراوية السورية، مما أثار تساؤلات حول أسباب هذا التجدد المفاجئ في نشاطه. فبعد أن نفذ التنظيم 38 عملية فقط في عام 2023، ارتفع هذا الرقم بشكل كبير ليصل إلى 153 عملية معلنة خلال العام الجاري.
وقد دفع هذا التصعيد المتسارع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تكثيف عملياتها العسكرية ضد التنظيم. فقد كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن حملة عسكرية أمريكية غير معلنة تستهدف خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وتشمل هذه الحملة غارات جوية وتوفير دعم استخباراتي لقوات سوريا الديمقراطية. [10]
وفي ظل هذا التطور، يبرز السؤال حول المستفيد الحقيقي من تصاعد نشاط تنظيم الدولة الإسلامية. فإيران، التي تربطها علاقات متوترة بالولايات المتحدة، وتخوض عبر أذرعها حربًا ضد إسرائيل، تبدو المستفيد الأكبر من هذا الوضع. ولا يستبعد مراقبون أن تكون طهران تلعب دورًا غير مباشر في دعم تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة مع التوقيت الدقيق لهذا التصعيد.
من المهم الإشارة إلى أنه سبق للمرصد السوري لحقوق الإنسان أن اتهم كلًا من إيران ونظام الأسد بالوقوف وراء عودة تنظيم الدولة الإسلامية، مما يعزز من فرضية وجود أبعاد إقليمية معقدة وراء هذا التطور الخطير. [11]
خلاصة
من غير المستبعد أن تسعى إيران إلى استغلال علاقتها بتنظيم القاعدة كأداة للتخفيف من الضغوط العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية عليها وعلى أذرعها. فمن خلال دفع التنظيم إلى الواجهة مجدداً، قد تتمكن طهران من صرف الأنظار عن أفعالها وأذرعها في المنطقة، وتوجيه اهتمام المجتمع الدولي نحو تهديد إرهابي جديد. على رغم ظهور بعض المؤشرات الأولية على تنفيذ هذه الاستراتيجية، إلا أن النشاط الحالي للتنظيم لا يزال غير كافٍ لتحقيق الأهداف الإيرانية بالكامل، وقد تشهد المرحلة المقبلة تصاعدًا في نشاط أفرع التنظيم ضمن هذا السياق.
إبراهيم علي باحث متخصص بشؤون الجماعات المسلحة اليمنية، أخفى هويته لأسباب شخصية