نجحت “الموجة الحمراء” في انتزاع الأغلبية عبر التصويت الشعبي، وكذلك التمدد في كافة مراكز الدولة الأمريكية (البيت الأبيض – مجلس الشيوخ – مجلس النواب – المحكمة العليا)، مما يدفع صانع القرار العربي لاستشراف مسارات التحرك الأمريكي نحو الشرق الأوسط، وبيان محددات أجندة دونالد ترامب وتداعياتها على مجمل تفاعلات المنطقة، خاصة مع تعهداته بوقف الصراعات القائمة عبر ترسيخ مبدأ “السلام من خلال القوة”.
معادلات الصراعات القائمة
أثار إعلان فوز المرشح “دونالد ترامب” لولاية ثانية وأخيرة لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عدد من التساؤلات، أبرزها ما يتعلق بمستقبل الصراعات القائمة في الشرق الأوسط، خاصة مع تعهده بإنهاء العنف وإعادة السلام إلى منطقة تعج بالفوضى، بدءًا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وجنوب لبنان، مروراً بالضربات المباشرة والمتبادلة بين إسرائيل وإيران، وصولاً إلى الصراعات في اليمن وسوريا والعراق وليبيا والسودان. مقابل حالة الضبابية وعدم اليقين في استشراف “الخطوة التالية”، وذلك استناداً إلى رؤية ترامب حول السماح لإسرائيل بما وصفه بـ”إنهاء المهمة” في قطاع غزة وما تلا ذلك من اضطراب في الجبهة اللبنانية، وهكذا نصبح بذلك أمام معادلات توظيفية محتملة تتمثل في:
– توظيفات “الواقعية الجاكسونية”
ترجع منهجية “الجاكسونية” إلى الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون الذي تولى الرئاسة عام 1829، إذ تُبنى تلك المنهجية على حلول “الحس السليم” للمشكلات المعقدة، وهو ذلك المسار الذي تبناه دونالد ترامب إبان ولايته الأولى ويسعى لاستكماله في الولاية الثانية حيث اتباع “أفكاره الخاصة وغرائزه البراغماتية”، دون النظر إلى المؤسساتية في إدارة السياسة الخارجية. كما أن هذا النهج “الجاكسوني” دوماً ما يُبرر أهمية الحرب على الإرهاب، وأهمية التوظيفات الأمريكية لكل عناصر القوة لتقويض ومحاصرة كافة الكيانات الإرهابية.
وعليه، فمن المُرجح أن يُستأنف ترامب دعمه الواضح والقوي لإسرائيل بجانب تحركاته نحو إحلال السلام والاستقرار في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية وفقاً للتصورات الأمريكية وليس العربية. فضلاً عن استئناف خطوات التطبيع الداعمة للموقف الإسرائيلي داخل الشرق الأوسط عبر توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل أولاً “المملكة العربية السعودية”، التي تُشكل أحد أبرز أولوياته القصوى في المنطقة. كما أنه من المُحتمل أن يتم مقايضة التطبيع بتوافقات مبدئية حول المرئيات العربية لترتيبات “اليوم التالي” لغزة. كأن يتم – على سبيل المثال – تبني أطروحات أمريكية خاصة بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ذات صلاحيات سيادية محدودة، بحيث تعمل إسرائيل بشكل حصري على توفير الأمن لكلا الدولتين، مع غض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية بشأن ضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن، وإعادة طرح رؤية ترامب التي كان قد أعلن عنها مسبقاً عام 2020 حول “من السلام إلى الازدهار”، والتي من المُرجح أن تحظى بتوافق إسرائيلي كمحاولة لكسر حالة الجمود واقتناص أوراق للمرابحة قبل الانتخابات المقبلة نهاية عام 2025.
– توظيفات الانخراط والانسحاب
على الرغم من التصريحات المستمرة والمتعاقبة للرؤساء الثلاثة السابقين للولايات المتحدة الأمريكية حول الاستدارة من الشرق الأوسط وإدارة الدفة نحو آسيا لمواجهة الصعود الصيني، إلا أنّ جميعهم فشلوا في إنجاز تعهداتهم في هذا الشأن. الأمر كذلك بالنسبة للرئيس المنتخب “دونالد ترامب”، فقد فرضت التفاعلات المتشابكة في الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، وحالة التوسع الإقليمي التي تتبعها القوى الصاعدة في المنطقة خاصة إيران، وكذا التموضع في المنطقة من قبل القوى المتنافسة في النظام الدولي، وفي مقدمتها الصين وروسيا، تجديد الالتزام الأمريكي بأهمية توطئة الأوضاع في الشرق الأوسط.
فعلى سبيل المثال، من المُرجح تجديد الالتزام الأمريكي بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكن لا يزال الهيكل أو الإطار الرسمي للنشأة قيد الدراسة وفقاً للتفاهمات المُحتمل صياغتها مع القوى التقليدية والصاعدة، وبما يضمن مصالحها وتصورات حلفائها في الشرق الأوسط، وهو ما يدفع بفرضية “المراوحة الأمريكية” حول تعهداتها بشأن الانسحاب من المنطقة.
مسارات مُحتملة
بالنظر إلى ملامح تشكيل الإدارة الجديدة للرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب”، نجد أنّ أغلبهم عُرفوا بمواقفهم المتشددة تجاه الشرق الأوسط، مما قد يُرجح ميل توجهات “الولاية الثانية” نحو تعزيز المواقف الصارمة. فعلى سبيل المثال، من أبرز الأسماء ماركو روبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية، وكذا اختيار مايكل والتز مستشاراً للأمن القومي، وبيت هيغيث لوزارة الدفاع، بالإضافة إلى تيف ويتكوف مبعوثاً للشرق الأوسط، وإليز ستيفانيك مبعوثةً لأمريكا لدى الأمم المتحدة ، وهما من الشخصيات المعروفة بخطابهم المتشدد تجاه فواعل الشرق الأوسط ودعمهم اللامحدود لإسرائيل، على نحو ما قد يدفع باستشراف مسارات مُحتملة لتحركات الولاية الثانية لدونالد ترامب تجاه المنطقة، تتمثل في:
-مقاربات جديدة
من المُرجح أن يمتلك دونالد ترامب في ولايته الثانية “مقاربة مغايرة نسبياً” عما طرحه إبان الولاية الأولى. كأن يُعيد طرح ما أسماه بـ”صفقة القرن”، ولكن في إطار اقتصادي دون السياسي. فعلى سبيل المثال، قد تشتمل المقاربة الجديدة للحل الدفع بمزيد من الحوافز الاقتصادية والاستثمارية، وعمليات إعادة الإعمار، والمساهمة في إعادة بناء البنية التحتية للقطاع، وتحسين مستويات المعيشة، دون “الحديث الجدي” حول آليات حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وفقاً لحدود عام 1967.
أما لبنانيا، فقد تُبنى على مُقاربة شخصية ، إذ من المُرجح الضغط نحو انسحاب إسرائيل إلى خط الحدود بين البلدين، والدفع بإنشاء منطقة عازلة، وانتشار الجيش اللبناني وربما قوات أممية في مناطق الجنوب وحتى نهر الليطاني، واستكمال ذلك بإنهاء الشغور الرئاسي واختيار رئيس جمهورية جديد حتى تنتظم شؤون الحكم في لبنان . ويواجه هذا التصور تحديات عديدة، أبرزها، الفشل في محاصرة هيمنة حزب الله على الجنوب ونزع سلاحه، وفي حال فرض رئيس للجمهورية من الخارج لن يكون من شأنه استقرار الأوضاع في لبنان.
– دبلوماسية المؤتمرات
تُبنى هذه الفرضية على محاولات ترامب البراغماتية لاستعادة المجد الأمريكي، عبر إحداث اختراق حيوي لمسارات الصراع في المنطقة يُحسب لدولته. فعلى سبيل المثال، من المُرجح الدعوة لمؤتمر دولي برعاية أمريكية كمحاولة للضغط على أطراف الصراع لانتزاع هدنة يُبنى عليها توافقات نوعية لآليات الحل وترتيبات “اليوم التالي”، لكن قد يعيق هذا المسار تفضيلات المنطقة للرعاية الأممية لمثل تلك المسارات الدبلوماسية.
– مقايضة الصفقات:
ترتبط هذه الفرضية بمستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية، ومسارات التحرك المُحتملة في إطار التعهدات الترامبية لاحتواء الصراعات في المنطقة، ومحاولة مقايضة الأجندة الإيرانية باحتواء أذرعها في المنطقة. فعلى سبيل المثال، من المُحتمل أن يعقد دونالد ترامب صفقة مع طهران لتقليص العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، أو ما يتعلق ببعض طموحاتها في التموضع بالمنطقة، مقابل توقفها عن دعم وكلائها في الدول المأزومة، مثل (اليمن، لبنان، سوريا، العراق، غزة)، بالمال والسلاح، وهو ما قد يتوافق مع تطلعات الإصلاحين وأهداف الرئيس مسعود بزشكيان، نحو كسر العزلة الدولية والانفتاح على الإقليم. إلا أنّ ذلك المسار قد يُعيقه عدد من المحددات، أبرزها، أولاً: مدى استجابة طهران في ظل تعارض الرؤى فيما يتعلق بمستقبل البرنامج النووي الإيراني، ثانياً: ثمّة اعتقاد بأن تشكيل ترامب لفرق عمله الخارجي هم من “الصقور المتشددين” تجاه طهران، وما يرتبط ذلك من سيناريوهات تجنح لمزيد من العقوبات وسياسة الضغط القصوى، فضلاً عن نشاط التحركات الأمريكية لعزل إيران عن محيطها الإقليمي الدولي، وكذا إرهاصات تدمير برنامجها النووي.
خلاصة
بناءً على ذلك، تبدو أطروحات “دونالد ترامب” في ولايته الثانية أكثر عقلانية وواقعية مقارنة بالولاية الأولى، خاصة فيما يتعلق بتوطئة حالة الصراعات في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من التحرك نحو ترسيم صياغات مقبولة تدفع بمزيد من العلاقات الاستراتيجية والحيوية مع دول الثقل والمركز، إلا أنّ هناك عدداً من التحديات قد تُعيق “التعهدات الانتخابية”. أبرزها، أولاً: الدعم الكامل لإسرائيل، ثانياً: افتقار تعهدات إحلال السلام لآليات تنفيذ جادة، ثالثاً: لا تشمل التعهدات الانتخابية على خارطة طريق واضحة ومُلزمة، رابعاً: تنامي الشكوك العربية من التشكيل المقترح لفريق الولاية الثانية لترامب على نحو ما قد يدفع بالتساؤلات والرهانات حول ما إذا كان سيسهم ذلك الفريق وتوجهاته في احتواء الصراعات القائمة أم سيدفع بمزيد من الاضطرابات في المنطقة.
د. إيمان زهران باحثة في مركز سوث24 للأخبار والدراسات، متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليم