“بالرغم من أن التلاعب بالتمثيل الجنوبي عبر مجالس صورية لا يمثل تطورًا جديدًا في السياسة اليمنية، إلا أن الدور الذي تلعبه قوى خارجية في تأسيس هذه المجالس يُعد سابقة لم تشهدها البلاد من قبل..”
منذ نشأته عام 2017، لعب الحراك الجنوبي لعب الحراك الجنوبي دورًا محوريًا في إحياء وتعزيز النضال من أجل استقلال جنوب اليمن، وتحويل الطاقات الفردية إلى حركة سياسية قوية على الارض. أظهرت الحركة السلمية نجاحًا في حشد الجماهير، واكتسبت تأييد الشارع الجنوبي، وخلقت زخما سياسيا لقضية الجنوب. ومع ذلك، تسببت صراعات قيادات الحراك المستمرة داخل الحركة اللامركزية في تقويض قدرتها على العمل كجبهة موحدة. وعلى الرغم من اتفاقها على هدف مشترك، إلا أن فصائل الحراك المتعددة أخفقت في الاندماج تحت مظلة قيادة أو هيكل تنظيمي موحد. بالإضافة الى ذلك، كانت هناك محاولات خارجية من نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأطراف سياسية مؤثرة في السياسة اليمنية لإذكاء حالة التشرذم واستمرارها، مما أدى إلى إضعاف فعالية الحراك الجنوبي في مواجهة الهيمنة الشمالية، وأثر سلبًا على مسار تحقيق استقلال الجنوب.
تزييف التمثيل الجنوبي: إرث من التلاعب السياسي
طالما اعتمدت الأنظمة اليمنية المتعاقبة على تأجيج الانقسام الداخلي كاستراتيجية لتقويض فاعلية الحراك الجنوبي في مواجهة حكمهم الاستبدادي. على سبيل المثال، ضمن إطار سياسة “فرق تسد”، عمد الرئيس السابق صالح إلى تأليب الجماعات والقيادات الجنوبية ضد بعضها البعض، مستغلًا خلافاتها لإضعاف موقفها وتعزيز هيمنة نظامه. وقد عمدت وسائل الإعلام التابعة لنظامه على تضخيم الصراعات الماضية في الجنوب، مثل الحرب الأهلية عام 1986 بين فصيلي الزمرة والطغمة، حيث تستهدف مثل هذه التغطية الإعلامية إثارة العداوات القديمة وتقويض الجهود الرامية إلى تعزيز الوحدة الوطنية الجنوبية وترسيخ مبادئ “التصالح والتسامح”. الأخطر من ذلك، أثناء ذروة احتجاجات الحراك السلمية، لجأ نظام صالح إلى تجنيد جهاديين لاغتيال قيادات الحراك، في مؤامرة دفعت بعض شخصيات مثل الشيخ طارق الفضلي إلى الانشقاق عن النظام والانضمام إلى الحراك.
خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت عام 2011، وبالرغم من أنّ هادي كان أكثر ودًا تجاه القضية الجنوبية والحراك مقارنة بسلفه صالح، لكنه أيضا قام بالتلاعب بالتمثيل الجنوبي لخدمة مشروعه السياسي. على سبيل المثال، قام نظام هادي بتقديم العميد عبد الله الناخبي كممثل للحراك الجنوبي بالرغم من أن الأخير لم يعد ملتزما بأهداف الحراك. أيضا خلال مؤتمر الحوار الوطني، بعد انسحاب الفريق الجنوبي بقيادة محمد علي أحمد احتجاجا على عدم الوصول لحل للقضية الجنوبية، قام هادي باستبدالهم بمجموعة موالية له يتزعمها ياسين مكاوي تحت مسمى الحراك. منحت هذه المشاركة السطحية للحراك شرعية وهمية لنظام هادي من خلال الإيحاء بوجود أصوات جنوبية داخل المخرجات النهائية لمؤتمر الحوار الوطني. لكن عمليا، فقد تم فرض مخرجات مؤتمر الحوار الوطني بقوة السلطة العليا، في الوقت الذي تعرض فيه الحراك وجماعات أخرى للإقصاء الكلي من المساهمة في الوثيقة الختامية للمؤتمر المذكور.
وعلى الرغم من المحاولات المستمرة لإضعاف الصف الجنوبي، تمكنت الحركة الوطنية الجنوبية من اكتساب زخم متزايد على مدار السنوات، خاصة مع بروز ثلاث تطورات مفصلية أحدثت تحولًا جذريًا لصالحها ولصالح القضية الجنوبية. أول هذه التطورات هي اندلاع ثورة الشباب السلمية عام 2011، كجزء من ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة آنذاك وتمكنت من إضعاف نظام صالح وتصديعه من الداخل. خلال الأزمة التي نشبت بين نظام صالح وأحزاب المعارضة في تلك الفترة، قامت المعارضة بالتحالف مع الحراك الجنوبي في سبيل إسقاط نظام الرئيس اليمني الذي كانت شرعيته بلغت أدنى مستوياتها في الجنوب مقارنة بالمناطق الشمالية. تمثلت نقطة التحول الثانية في توسع الحوثيين الى داخل المناطق الجنوبية في مارس 2015، مما فجّر المقاومة المسلحة ضد القوات الغازية. لم يؤد هذا التصعيد فحسب إلى تحوّل الحراك من المرحلة السلمية الى المقاومة المسلحة، لكنه أيضا ساهم في تعزيز دعوات الاستقلال الى مستويات قياسية بعد أن فقد معظم الجنوبيين الأمل في إصلاح الدولة المركزية اليمنية في صنعاء. أخيرا، شكّل تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017 لحظة محورية هامة للجنوب حيث تمكن من جمع جماعات متعددة تحت هيكل واحد، وتوحيد جهودها للدفاع عن قضية الجنوب، وسد الفراغ في إدارة الأمن وشؤون الدفاع.
مجابهة الانتقالي الجنوبي
منذ أيامه الأولى في التأسيس، واجه المجلس الانتقالي الجنوبي مقاومة شرسة من النخب اليمنية التي شعرت بالتهديد من ظهور قوة جنوبية جامعة، والتي استشعرت فقط المخاطر المرتبطة بصعود المجلس الانتقالي الجنوبي دون الأخذ في الاعتبار الفوائد الممكنة للتحالف مع كيان جنوبي موحد لمخاطبة تحديات مشتركة منها السيطرة المستمرة لجماعة الحوثي على أجزاء كبيرة من البلد. أيضا عمدت هذه النخب السياسية على التعامل مع المجلس الانتقالي الجنوبي كمكون سياسي منفصل عن جذوره العميقة في الحركة الجنوبية، مما تسبب في دوامات من الصراع والحرب العبثية وتعقيد جهود تحقيق الاستقرار في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليا. ومع ذلك، حتى لو قام المجلس الانتقالي الجنوبي بحل نفسه غدًا، ستظل الحركة الجنوبية قائمة ما دامت المظالم مستمرة وتطلعات أبناء الجنوب غير محققة.
ولمواجهة المجلس الانتقالي الجنوبي، سعت الأطراف اليمنية، بما في ذلك نظام هادي، إلى تشويهه وإضعافه، وتصويره على أنه لا يمثل جميع أطياف شعب الجنوب. وللترويج لهذا السردية الأخيرة، قامت هذه القوى بتمكين مجالس مصطنعة ودعم جماعات بديلة للحد من تأثيره. تزعم هذه المجالس الجهوية أمثال “مجلس حضرموت الوطني” و”مجلس شبوة الوطني العام” و”المجلس العام لأبناء المهرة وسقطرى” و”مجلس عدن السياسي” أنها تمثل محافظات معينة، غير أنها تفتقر إلى دعم شعبي واسع، وتهدف أساسًا الى تفتيت الحركة الجنوبية دون تقديم أي تمثيل حقيقي للمناطق التي تدعي تمثيلها.
ونظرًا لهذه الغاية، فليس من قبيل المصادفة أن تتوافق هذه المجالس الجهوية مع ما تم إعلانه مؤخرًا تحت مسمى “التكتل الوطني” ، وهو ائتلاف يضم أحزابا يمنية تدعم مشروع اليمن الاتحادي. ويعكس هذا التوافق جهودًا منسقة لمجابهة ادعاء المجلس الانتقالي الجنوبي تمثيله لكافة سكان جنوب اليمن. لهذا السبب، أصدر المجلس الانتقالي الجنوبي بيانًا يرفض مخرجات التكتل الوطني، مشددا على التزامه بتحقيق التطلعات الجنوبية صوب الاستقلال. ودعا البيان إلى ” ضرورة احترام الجميع للالتزامات الواردة في اتفاق الرياض والبيان الختامي للمشاورات التي رعتها دول مجلس التعاون الخليجي، والحرص على تماسك الشراكة القائمة، المتمثلة في مجلس القيادة الرئاسي، والهيئات المساندة، وحكومة المناصفة بين الجنوب والشمال”. ولهذا، قد نشهد انهيار اتفاق تقاسم السلطة الذي أُنشئ بموجبه مجلس القيادة الرئاسي، إذا استمرت محاولات تقويض التطلعات الجنوبية من خلال التلاعب بالتمثيل والتفتيت المتعمد.
تأثيرات وضغوط خارجية
بالرغم من أنّ التلاعب بالتمثيل الجنوبي عبر مجالس صورية لا يمثل تطورًا جديدًا في السياسة اليمنية، إلا أن الدور الذي تلعبه قوى خارجية في تأسيس هذه المجالس يُعد سابقة لم تشهدها البلاد من قبل. في الماضي، كانت الجهود المتعمدة لإضعاف المشروع الجنوبي تُنفذ بشكل محصور عبر أطراف يمنية، أما الآن، فتعمد قوى إقليمية إلى دعم هذه الأجندات المدمرة، بما يتماشى مع أهدافها في توسيع نفوذها السياسي عبر شبكات المحسوبية الخاصة بها. على سبيل المثال، بعد أن تضاءلت آمالها في تحرير المناطق الشمالية من سيطرة الحوثيين، حولت السعودية تركيز اهتمامها نحو جنوب اليمن، خاصة مع تخوفها من الدور الإماراتي النشط هناك، وعلاقة أبو ظبي الوطيدة بالمجلس الانتقالي الجنوبي. أيضا، نظرا لتاريخها المعقد مع جنوب اليمن أثناء ثورة ظفار، كثّفت سلطنة عمان جهودها لمجابهة النفوذ السعودي والإماراتي من خلال دعم شبكاتها الخاصة، لا سيما في المهرة ومناطق الحدود الشرقية.
على الرغم من أنّ البعض قد يعتبرها مجرد محاولات لتحقيق التوازن بين دول الجوار لتأمين نفوذها السياسي، إلا أنه ينبغي أن نشعر بقلق بالغ إزاء هذه التدخلات الاقليمية. من المرجّح أن تؤدي هذه المناورات إلى عواقب عكسية، حيث أن محاولات تفتيت الجنوب لا تعقّد جهود الاستقلال فحسب، بل تفاقم أيضًا من النزاعات والصراعات البينية، التي تقوض الأمن والاستقرار وتوفر أرضية لانتشار الإرهاب. كما أن تمزيق النسيج الاجتماعي وتعميق مشاعر الريبة والعداء بين القبائل والمناطق الجنوبية يصب مباشرة في مصلحة الحوثيين. منذ عام 2015، لعبت القوات الجنوبية دورا فعالا لمنع الحوثيين من الهيمنة على كامل الأراضي اليمنية. لذلك، فإنّ إضعاف المجلس الانتقالي الجنوبي وتفتيت الحركة الوطنية التي تشكل الرابط الأيديولوجي الموحد لهذه القوات، لن يعرّض أمن واستقرار المناطق الجنوبية للخطر فحسب، بل سيقوّض أيضًا التقدم المحرز في مواجهة التوسع الحوثي والنفوذ الإيراني في اليمن، وهو ما سينعكس على أمن واستقرار المنطقة الأوسع.
خاتمة
أثار تنامي قوة ونفوذ جنوب اليمن قلق خصومه، حيث تسعى حركة استقلال الجنوب بطبيعتها إلى تغيير الوضع الراهن وتحويل ميزان القوى بعيدًا عن النخب التقليدية على الأقل في المناطق الجنوبية. لذلك، من المتوقع أن نرى المزيد من محاولات الأطراف اليمنية الخاسرة في استغلال مكامن الضعف الجنوبية من خلال إضعاف التماسك الاجتماعي وتعميق الانقسامات الداخلية وتخريب الهوية السياسية الجامعة. ينبغي على دول الخليج المجاورة النأي بنفسها عن هذه الأنشطة المشبوهة، فالترويج لأجندات انقسامية لا يعكس قصر نظر فحسب، بل يُعد خطأً استراتيجيًا يضر بمصالحها على المدى الطويل. بالمقابل، يجب دعم الحركة الجنوبية، التي لعبت دورًا محوريًا في مواجهة التهديد الحوثي في اليمن، لمنع تحقيق المزيد من المكاسب السياسية والميدانية للجماعة المدعومة من إيران.
وأخيرًا، يتحمل الجنوبيون مسؤولية تعزيز تماسكهم الداخلي وحماية إنجازاتهم السياسية، حيث لا يقتصر النضال من أجل الاستقلال على المستوى السياسي مع الأطراف اليمنية والدولية لكنه يتطلب أيضا ترسيخ روابط اجتماعية أقوى بالداخل من أجل مقاومة فعالة لضغوط الانقسام الخارجية من خلال تعزيز الوعي الوطني الجنوبي وتوسيع قاعدة الحوار الجنوبي-الجنوبي. أيضا، يتعين على المجلس الانتقالي الجنوبي التحرك بسرعة لمعالجة ثغرات الإدارة الحكومية والخدمات، بالإضافة إلى تفعيل نظام المحاسبة لضمان كفاءة أدائه وتعزيز ثقة المواطنين. في حال عدم معالجة المجلس الانتقالي الجنوبي لهذه الإشكالات، قد يتمكن منافسوه من استغلال الوضع لصالحهم، مما قد يتسبب في تآكل شرعيته وتقويض ارتباطه بقاعدته الشعبية. لذلك، من الضروري العمل على إعادة بناء جسور الثقة بين النخبة السياسية والمواطنين لضمان تحقيق تقدم إيجابي وملموس في مسار القضية الجنوبية، وتعزيز الاستقرار، والتصدي بفعالية للتحديات والتهديدات الداخلية والخارجية.
علاء محسن باحث مقيم لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات. باحث دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة يوتا ومتخصص في سياسات الشرق الأوسط