اليوم سأروي لكم قصة اجدها ملهمة لكل الشباب بطلها الطالب حينها “غسان صالح غزه . قصة تلخص أن أقدار الله كلها خير حتى وإن أتت على هيئة ظلم أو خسارة. قد يُظن أن ما نمر به شر لكنه في حقيقة الأمر خير دُبِّر لنا ونحن لا نعلم كتبه الله لنا ونحن ما زلنا في أصلاب آبائنا.
بعد أن أنهيت المرحلة الثانوية بمعدل 89% كانت وجهتي أنا وكثير من أصدقائي إما كلية الحقوق أو كلية الاقتصاد. كان دخول تلك الكليات آنذاك حلمنا فتقدمنا لامتحان القبول نظرًا لكثرة المتقدمين وكانت المفاجأة أني كنت الوحيد الذي نجح من بين أصدقائي بينما سقط أغلبهم. شعرت حينها بالفخر وكانت بدايتي الدراسية مليئة بالأمل.
كالعادة كان الهم الأول لكل طالب قادم من خارج المدينة هو السكن وقد تم إنشاء سكن جامعي حديث لطلاب الحقوق وكنت على يقين بأني سأكون أحد سكانه. جهزت ملفي بعد دفع الرسوم الجامعية وذهبت إلى مدير السكن بثقة لكنني فوجئت برفضه الملف بحجة أن السكن ممتلئ. لم يخطر ببالي آنذاك أن الكذب والواسطة قد يكونان جزءًا من الواقع فصدقته.
لم أستسلم وبدأت دراستي رغم ضيق الحال. تنقلت بين منازل الأصدقاء والأقارب أحيانًا عند الأخ غسان مهدي وأخرى في غرفة الأخ منذر في عبدالقوي وتارة في جمعية أبناء الضالع. كانت الجامعة بعيدة والمواصلات صعبة ومصروف والدي رحمه الله لم يكن يكفي حتى لأسبوع فاضطررت للعمل في سوق القات لأغطي مصاريفي ودراستي وتحملت الكثير. كانت شهران من الشقاء لكنني رغم ذلك كنت من المتفوقين.
وذات يوم دخلت قاعة المحاضرات كعادتي فوجدت أصدقائي الذين لم ينجحوا في اختبار القبول جالسين داخل القاعة. فرحت لرؤيتهم وظننت أنه تم قبولهم أخيرًا وسنتشارك سكنًا ونتقاسم الإيجار. انتظرت انتهاء المحاضرة لأطرح فكرتي لكن المفاجأة كانت صادمة. فقد أخبروني أن من توسط لهم للدخول إلى الكلية هو نفسه من أدخلهم إلى السكن الجامعي. بكيت يومها قهرًا وكمدا شعرت أن الدنيا كلها ضدي وأن الظلم قد بلغ مبلغه.
قال لي أحدهم “اتصل بفلان هو من ساعدنا ولن يخذلك”. وبالفعل اتصلت بوالدي رحمه الله وطلبت منه المال فبعثه إلي واشتريت للوسيط قاتًا فاخرًا وذهبت إليه. استقبلني بلطف وأخذني إلى مدير السكن الذي بمجرد أن رأى القات رحب بي وقال “تعال غدًا سأجد لك مكانًا”.
لم أنم تلك الليلة من الفرح واستيقظت فجرًا وحملت كتبي وملابسي وركبت أول باص إلى المدينة. دخلت على المدير وأنا مبتسم لكنه نظر إلي وكأنه لا يعرفني وقال “ما في مكان السكن ممتلئ”. هنا انفجرت جن جنوني شعرت أن كل تعب الشهرين وكل الظلم الذي كتمته صار حممًا في داخلي وكنت كوحش كاسر. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أضربه وأحطم كل ما حولي. لم يكن تصرفًا رشيدًا لكنني شعرت بلذة غريبة كأنها عدالة لحظية حتى وأنا أعلم أنني سأفصل.
خرجت من السكن لا أحمل سوى ملابسي وكتبي وخرجت من عدن كلها. شعرت أن الأرض ضاقت بي. ظننت أن هذا نهاية الحلم وأن مستقبلي قد انتهى لكن الله كان يدبر لي الخير.
في صنعاء المدينة التي كنت أعشقها منذ صغري بدأت رحلة جديدة في مجال عشقي الأول الرياضة. درست تخصصها وأكملت مساري حتى عدت اليوم إلى كلية الحقوق لكني لم أعد طالبًا ولا موظفًا ولا أنتظر باص الجامعة بل عدت إليها بسيارتي الخاصة وأنا مدير عام بحمد الله وتوفيقه.
وإن أردتم بقية الحكاية فسأروي لكم كيف كانت صنعاء محطة الفرق وكيف أحاطتني أقدار الله بتدبيره وتوفيقه حتى وصلت لما أنا عليه اليوم.
حين وصلت صنعاء لم يكن في جيبي سوى بضع أوراق نقدية بالكاد تكفي لأيام قليلة لكن قلبي كان ممتلئًا بعزم جديد. شعرت وأنا أدخلها أن شيئًا ما بانتظاري هنا أن هذه المدينة ستحتضنني وتعيد تشكيل مستقبلي. كنت أتنقل بين الأحياء أبحث عن كلية تناسب ميولي. في قلبي كان حب الرياضة قديمًا لكنني كنت أراه مجرد هواية ولم يخطر ببالي أن يكون هو المفتاح الحقيقي لقدري.
في أحد الأيام دخلت إلى كلية التربية الرياضية فقط لأستفسر. استقبلني أحد الموظفين وسألني “تحب الرياضة؟” أجبته بحماس “أعشقها منذ طفولتي”. ابتسم وقال “الرياضة مش مجرد هواية الرياضة علم وهيبة ورسالة”. كانت تلك العبارة كأنها إشارة من السماء. قررت في تلك اللحظة أن أبدأ من جديد أن أعيد بناء نفسي على ما أحب.
التحقت بالكلية ولم يكن الأمر سهلًا. كنت غريبًا في مدينة مزدحمة وأسكن في غرفة صغيرة أشاركها مع أربعة طلاب. كنت أستيقظ مبكرًا أذهب إلى المحاضرات ثم أعمل بعد الظهر في أي عمل أجده من حمل البضائع إلى بيع الصحف فقط لأغطي الرسوم والمصاريف. ومع ذلك لم أتغيب عن أي محاضرة وكنت الأول في دفعتي في أكثر من مستوى.
وفي السنة الثانية بدأت التدريب في الأندية الرياضية واللعب بنادي اليرموك الرياضي وتعرفت على مدربين كبار أخذوني تحت أجنحتهم وفتحوا لي الأبواب. وذات مرة قال لي أحدهم “عندك طاقة مختلفة لا تستهين بها”. ومن هناك بدأت رحلتي الشبابية. شاركت في بطولات حضرت ورشًا تنقلت بين محافظات مثلت الكلية في أكثر من فعالية في عدن وحضرموت وتنقلت مع نادي اليرموك كلاعب. شعرت أني وُلدت من جديد.
اللافت أن كل خطوة كنت أخطوها كانت تعيدني بطريقة أو بأخرى إلى عدن لكن هذه المرة من موقع مختلف. وذات يوم بعد تخرجي بستة أشهر جاءني اتصال من أحد الموظفين في الخدمة المدنية صديقي علي سيف الظاهري أن هناك وظيفة شاغرة في مكتب الشباب والرياضة وأنت الأحق بها بحكم التخصص الذي درسته. كنت حينها في صنعاء وقلبي ينبض بذكرى تلك الليالي التي كنت فيها بلا مأوى وبلا أمل والآن أنا أعود إلى أرضي وناسي ليس كطالب بل ككادر مؤهل يحمل شهادة وخبرة وطموحًا لا يتوقف.
وبالفعل بدأت العمل وتدرجت وأثبتت نفسي حتى صرت اليوم مديرًا عامًا أتنقل بسيارتي الخاصة أزور ذات الكلية التي أُقصيت منها لكن لا بشعور الانتقام بل بحس الانتصار.
كل ما مر بي لم يكن عبثًا. كل باب أُغلق كل دمعة نزلت كل لحظة شك كانت تصنع في داخلي رجلًا جديدًا يعرف أن الله لا يضيع من أحسن نيته وصبر.
حين عدت إلى الضالع كنت قد تغيرت. لم أعد الشاب الذي يبحث فقط عن مقعد دراسي أو غرفة في سكن جامعي. عدت وأنا أحمل في قلبي رسالة وفي عقلي هدفًا أن أكون صوتًا للشباب وأن أفتح لهم الأبواب التي أُغلقت في وجهي يومًا.
بدأت العمل في مكتب الشباب والرياضة. كنت أراها مسؤولية أكثر منها وظيفة. كنت ألتقي بشباب أنهكتهم الظروف أعرف وجعهم لأنني كنت واحدًا منهم. ولهذا كنت أتعامل معهم كأخ لا كموظف. أسست أنشطة أعدت الروح إليهم بعدما كادت تدمرهم الحرب واليأس. أقمت دوريات رياضية وبدأت أطرح دورات تدريبية وتأهيلية لهم لأزرع فيهم الثقة التي كادت تنتزع مني يومًا.
ومع مرور السنوات تأسست لدي قناعة راسخة أن التغيير الحقيقي يبدأ من الاستثمار في الإنسان وخصوصًا الشاب. ثم جاءت اللحظة التي شعرت فيها أن الله قد أعاد لي اعتباري كاملًا حين تم اختياري مديرًا عامًا. عدت إلى نفس الكلية التي سُحبت مني فرصة دراستها ظلمًا ولكن هذه المرة دخلت إليها وأنا قائد لا تابع. دخلت وأنا أحمل ملفات تطوير لا طلب سكن. دخلت وقد منّ الله علي بكرامة وعزة لا بخوف وقلق.
لم أتشفَّ أو أُخاصم من ظلمني بل كنت أبتسم وأردد بيني وبين نفسي “لو لم يغلقوا الباب لما فُتح لي هذا الطريق”.
وما زالت الرحلة مستمرة بين إدارة وقيادة وبين تدريب الشباب وتأهيلهم. شاركت في إعداد الخطة الاستراتيجية لوزارة الشباب حصلت على دورات متقدمة وشاركت في مؤتمرات داخل وخارج الوطن. كل ذلك وأنا أضع يد الشباب في يدي أقول لهم دومًا “قصتي بدأت مثلك فلا تيأس وكن واثقًا أن الظلمة التي تعيشها اليوم قد تكون مقدمة لفجر لا تتخيله”.
بعد أن أصبحت مديرًا عامًا لم يكن طموحي أن أكتفي بالمكتب والقرارات الروتينية. كنت أرى المنصب مجرد وسيلة لا غاية. وسيلة أفتح بها الأبواب التي أُغلقت في وجهي وأكسر بها القيود التي طالما كبلت أحلام كثير من شبابنا.
أولوياتي كانت واضحة الوصول إلى الشباب في القرى في الأحياء الشعبية في الملاعب المهملة وفي العقول التي بدأت تفقد الأمل. بدأت أزور وأشاهد وأدعم كل الأنشطة الرياضية في المدينة وفي القرى بكل المديريات. جمعت الكوادر المؤهلة أعدنا هيكلة العمل بحسب مقتضيات المرحلة وصعوبتها. عملنا نيابة عن الاتحادات العامة الميتة ودعمنا فروعها لإيجاد أنشطة. دعمنا الأندية وعملنا دراسات لكل ما دمرته الحرب ورفعناه للجهات العليا. أعدنا تأهيل الصالة الرياضية المركزية في حكولة ورفعنا جزءًا من سور المدينة الرياضية. أخرجنا مشروعًا مهمًا من وزارة الشباب بتمويل حكومي هو مشروع تأهيل وتعشيب ملعب نادي الصمود الرياضي الذي استهدفته صواريخ الحوثي ودمرت منصته الرئيسية.
لم أكتفِ بذلك. عرفت أن العالم تغير وأننا بحاجة لتطوير أدواتنا. التحقت بدورات دولية ومحلية في القيادة والتخطيط الاستراتيجي في إعداد المشاريع وفن التواصل المؤسسي. أردت أن أكون مسؤولًا بمستوى المرحلة لا مجرد اسم في قرار تعيين.
ومن هنا جاءت فكرة إنشاء صندوق تنمية ورعاية الشباب كذراع تنفيذي لدعم المبادرات والمشاريع الصغيرة لتأهيل الشباب وتمكينهم اقتصاديًا ومهاريًا. لم يكن الأمر سهلًا لكن إيماني أن الاستثمار في الشباب هو الاستثمار الحقيقي جعلني أخوض التحدي بكل ما أملك.
أسسنا شراكات مع منظمات وبدأنا ننفذ برامج تدريبية غير مسبوقة في المحافظة. لم نعد ننتظر الدعم من أحد بل صرنا نخلق الفرص من العدم. وفي كل فعالية كنت أنظر إلى أعين الشباب وأرى فيها ذات النظرة التي كانت في عيني يومًا مزيج من الحلم والخذلان. وكنت أقول لهم “أنتم لستم ضحايا الظروف أنتم أبطال مرحلة جديدة فقط تمسكوا بحلمكم”.
ولم تمضِ سنوات قليلة حتى بدأت المؤسسات الوطنية والدولية تلتفت لنا. تمت دعوتي للمشاركة في مؤتمرات شبابية داخل الوطن. كنت أشارك بورقة عمل لا عن النظريات بل عن قصة صارت نموذجًا.
وها أنا اليوم ما زلت على ذات العهد. لا أنسى من أين بدأت ولا من أنا. ما زلت أعود إلى تلك الغرفة الصغيرة في صنعاء حين أضيع إلى موقف الباص الذي حملني ذات فجر بأمل إلى دمعة والدي التي لم أرَ مثلها إلى كل “لا” سمعتها في وجهي وكانت سرّ “نعم” التي أعيشها اليوم.
خلاصة هذه القصة في دروس بسيطة من القلب إلى كل شاب يبحث عن بصيص أمل وسط عتمة الطريق تمسك بحلمك واسعَ له وربك سيفتح لك الأبواب حتى وإن رأيتها مقفلة. استمر ولا تيأس.
أخوكم غسان صالح غزة مدير عام مكتب الشباب والرياضة محافظة الضالع