يصادف اليوم الثلاثاء 8 يوليو الذكرى الأولى لرحيل النقيب/قائد علي الحميدي، القامة الأمنية الفذه، التي تركت بصمات لا تُمحى في سجل مكافحة الجرائم، والممنوعات، والأعمال الخارجة عن القانون، الرجل الذي لم يكن مجرد مسؤول في جهاز أمني بل كان حارساً للعدالة، ومدافعاً شرساً عن الأمن والاستقرار، ومثالاً لتفاني والإخلاص بالعمل، رحل وبقت مآثره ودهاؤه الأمني حديث المجالس بالضالع شاهداً على مسيرة حافلة بالعطاء والتضحية.
رحم القساوة منبت البطل
ففي الثاني من فبراير عام 1964م ولدَ الحميدي في منطقة موعد حمادة بمديرية الأزارق في محافظة الضالع، هذه البقعة الجغرافية التي لم تكن مجرد مكان للميلاد، بل رحماً للقساوة والعصامية، غرست فيه مبادئ الصلابة والعزيمة التي لا تلين، من رحم هذه البيئة شق الحميدي طريقه الأولى في الحياة، عاش طفولته في كنف عائلة مناضلة لقنته دروس الصبر والتحدي والكفاح مبكراً، لتكون كل عقبة واجهها سقلاً إضافياً لروحه
وعلى مقاعد الدراسة بدأ رحلته التعليمية التأسيسية في مدرسة مصعب بن عمير إحدى مدارس منطقته، فيها تلقى تعليمه الابتدائي، ومن هناك واصل مساره التعليمي ليكمل المرحلتين الأساسية والثانوية العامة في إحدى المدارس الكائنة بمركز المديرية، ومنذ نعومة أظفاره وعلى طول مسيرته التعليمية أظهر النقيب/الحميدي انضباطاً ملحوظاً ووعياً متقدماً، تلك السنوات التأسيسية كانت اللبنة الأولى والأكثر رسوخاً في بناء شخصيته.
من الشرطة الشعبية إلى ظابط تحقيق
في العام 1982م وبعد أن أنها الحميدي الثانوية العامة، انخرط في سلك الشرطة الشعبية، وبدأ خدمته كشرطي في محافظة حضرموت لعدت سنوات، اكتسب خلالها الخبرة الميدانية وتعمق في فهم آليات العمل الأمني على أرض الواقع
فمنذ تلك البدايات المبكرة، وإلى أن تم استبعاده عن الخدمة في العام 2010م، نتيجة لمعاناته من اضطرابات وتحديات نفسية – شأنه في ذلك شأن العديد من الكفاءات الجنوبية التي أُبعدت قسراً عن مواقعها الحيوية في الجهاز الحكومي إبان عهد نظام الهالك عفاش– كان النقيب الحميدي قد رسخ مكانته كضابط بحث من الطراز الرفيع، لم تكن مهمة البحث والتحقيق في القضايا مجرد عمل روتيني بالنسبة له، بل كانت مجاله الذي يبرع فيه بامتياز، ولعبته المفضلة التي يتقنها ببراعة
خلال مسيرته المهنية الحافلة مارس مهامه كضابط بحث في عِدّة مراكز أمنية بأكثر من محافظة، فقد كانت انطلاقته الفعلية في هذا المضمار من إدارة أمن دار سعد في عدن، حيث خطا الحميدي خطوته الأولى في طريق معبد بالتحديات، طريق تقدّر بالأميال قطعها الراحل خلال مراحل حياته المهنية، وخلال تلك الرحلة حققت جهوده المتواصلة نجاحات أمنية باهرة، تجلت في كشف طلاسم العديد من القضايا المعقدة، وتقديم الجناة للعدالة بلا هواده، ليسهم بذلك في بث الطمأنينة وإعادة الهدوء إلى نفوس الأهالي
باني صرح الأمن في أتون الفوضى
في اليوم الذي تلى تحرير محافظة الضالع من قبضة مليشيا الحوثي وعفاش الغاشمة، وبينما كانت أصداء المدافع العسكرية قد خفت، بزغت شمس مرحلة جديدة تستدعي معركةً أشرس، معركة بناء صروح المؤسسة الأمنية وانتشالها من ركام الدمار، وتفعيل دورها الحيوي، وتعزيز قدراتها الأستيعابية لتصدي للوسائل المختلفة التي يدفع بها الخصوم لتحقيق ما لم يحققوه في حربهم العسكري على الجنوب، لم يكن النقيب الحميدي مجرد شاهد في هذه المعركة، بل الرائد بلا منازع، وقائد الدفة في خضم هذا التحدي المصيري.
انطلق الحميدي مدفوعاً بوازع المسؤولية الوطنية والإنسانية الملقاة على عاتقه كرجل أمن يدرك خطورة الموقف تجاه أمن وسلامة بلده ومستقبل قضية شعبه العادلة التحرري، فباشر مهامه من الإدارة العامة للبحث الجنائي بالمحافظة بروح متقدة وعزيمة لا تلين، تولى بلا كلل أو ملل إدارة أكثر من قسم حيوي في الإدارة العامة للبحث في آن واحد، وبخبرته الطويلة ودهاءه الأمني نجح في وضع الأساس لعودة الاستقرار، جاعلاً من الأمن حقيقة ملموسة لا مجرد شعارات.
نائب لأبو الحمزة في قلب الخطر
بعد ذلك لم يتوقف الراحل عن العطاء وبذل الجهود في سبيل تطبيع الأمن والاستقرار، فقد عين في مرحلة لاحقة نائباً للمدير السابق لإدارة مكافحة المخدرات بمحافظة الضالع الشهيد القائد/محمد علي الحميدي(أبو الحمزة) ليشكل إلى جانب أبو الحمزة قوة ضاربة في وجه تجار ومتعاطي المخدرات وشبكات اجرامية منظمة لا تتورع عن أي فعل لحماية تجارتها غير المشروعة، وبحكم خبرته السابقة في البحث والتحقيق كان الراحل عنصراً فاعلاً في النجاحات التي حققتها الإدارة، حيث اسهمت جهوده إلى جانب أبو الحمزة في ضرب اوكار المروجين وتخفيف منابع هذه السموم التي تهدد نسيج المجتمع، ولعب أدوار بارزة في العديد من العمليات التي أسفرت عن ضبط كميات كبيرة من المخدرات في الضالع والقبض على شبكات خطيرة.
في هذه الذكرى الأليمة نستذكر رجل يمثل رحيلة خسارة لجهاز الأمن والوطن ككل، لكن إرثه يظل منارة تُضيء دروب الأجيال القادمة، وتعلمهم أن الإخلاص في العمل والتضحية من أجل الحرية والقضايا العادلة والحق وترسيخ العدالة هو السبيل الوحيد لبناء الأوطان المستقرة والمزدهرة، فرحم الله الفقيد واسكنة فسيح جناته، وجزاه خير الجزاء على ما قدمه لوطنه وشعبه، ستبقى ذكراه حية في قلوب من عرفوه، وستبقى إنجازاته مناره يهتدى بها في دروب مكافحة الجرائم وكل الضواهر المزعزعة لاستقرار الوطن.