يعيش الجنوب على وقع انقسام متجذر تشكل عبر الجغرافيا والتاريخ والسياسة حتى صار محددًا لاتجاهات المجتمع. إنه صراع بين عقلية جبلية ذات نزعة عسكرية تميل إلى المركزية والانضباط الصارم، وعقلية ساحلية مدنية ذات نزعة تجارية وانفتاح على التفاوض والمصالح. ما كان يمكن أن يكون ذات عملية تكاملية ثرية تحول بفعل القوى المحلية والخارجية إلى جبهتين متقابلتين، كل منهما تنظر للأخرى بعين الشك.
المناطق الجبلية صاغتها بيئة وعرة جعلت ساكنيها أكثر صلابة وأقل انفتاحًا، فكانت مهيأة لتبني الانضباط العسكري بوصفه امتدادًا لثقافة الدفاع عن الأرض، ومع مرحلة الكفاح المسلح برزت هذه العقلية في قلب الثورة ثم انتقلت إلى السلطة بعد الاستقلال لتصبح السياسة امتدادًا لروح المعركة.
في المقابل شكّلت المناطق الساحلية الممتدة من باب المندب حتى حضرموت والمهرة عقلية مختلفة بفعل البحر والتجارة والاحتكاك بثقافات متعددة لترى السياسة سوق أفكار ومصالح، والتفاوض أساس الحلول، والاستقرار شرط للحياة. لكن حين سيطر التيار العسكري على مفاصل الدولة، شعر المدني الساحلي بالتهميش، فانكفأ إلى النشاط الاقتصادي أو الهجرة تاركًا فراغًا في الإدارة والسياسة.
بهذا التباين تحول التنوع الطبيعي إلى مناطقية مسيسة، القوى المحلية استغلت هذا الانقسام للتحشيد الجغرافي وتثبيت النفوذ، بينما القوى الخارجية استثمرت فيه لضمان بقاء الجنوب في حالة انشغال داخلي حيث أصبح غياب العقد الاجتماعي واضح، فالتعددية تُفسَّر كتهديد، والاختلاف يُعامل كخطر أمني.
هيمنة العقل العسكري على المجال السياسي جعلت القرار أحادي، بينما ظل العقل المدني يفتقر إلى أدوات القوة ليوازن المشهد. النتيجة أن الجنوب يعيش صراع صامت بين من يرى السياسة امتدادًا للمعركة، ومن يراها فضاء للتفاهم والمصالح.
الخطر الأكبر أن استمرار هذا النمط يجعل أي مشروع وطني هشًّا أمام الصدام المناطقي أو التدخل الخارجي. المعالجة تبدأ بالاعتراف بأن التنوع ليس تهديد، بل هو شرط للحياة السياسية السليمة، وبأن العلاقة بين العقل العسكري والعقل المدني يجب أن تُبنى على التكامل لا التصادم، فالعسكر لا يبنون اقتصاد، والمدنيون لا يحمون أرض بلا قوة منظمة. ما لم يُبنَ هذا التوازن على عقد اجتماعي واضح، سيظل العقل المتفرد يجد في المناطقية غطاء لهيمنته، ولو كان الثمن هو تفكك النسيج الاجتماعي الجنوبي.