منذ بواكير الطفولة وتحديدا في سني ما بين العاشرة والثانية عشر انطبعت في ذاكرتي لوحة لا يعتريها محو ومشهد سيظل نقشا خالدا في سجل حياتي؛ إذ كان لنا منزل صغير لا يبعد كثير عن البيت الذي نسكن فية سوى مائة متر… غير أن ذلك البيت البسيط تحول في سياق الأحداث إلى ما يشبه المحطة الاستراتيجية أو نقطة الترانزيت السرية التي تتقاطع عندها مسارات الثورة مع إرادة التحرر ويُصاغ في جنباتها مستقبل الثورة. كان ذاك البيت مأوى للمناضلين وقبلة للثوار ومنصة للتخطيط وإعادة التموضع حيث احتضن رموز المقاومة الجنوبية وأبطال حركة “حتم” في تسعينيات القرن الماضي أولئك الذين حملوا على كواهلهم مشروع الكفاح المسلح… وواجهوا آلة الاحتلال بعزيمة لا تعرف الانكسار كما ضم بين جدرانه قيادات اللجان الشعبية الجناح السياسي لـ”حتم” ثم كان ملتقى للقيادات الذين فجروا شرارة الحراك الجنوبي. ورغم أن والدي – رحمه الله – كان يستنفر أقصى درجات اليقظة متشحا بالحذر ومتوشحا بندقيته المحملة بمخزنين من الرصاص حرصا على ألا تطأ عتبة ذلك البيت وماحوليه قدم غريبة إدراكا منه لحساسية المرحلة وخطورة الظرف، وصونا للأسرار التي كانت تنبض بها جدرانه وتختزن بين طياتها ملامح مشروع تحرري عظيم… فإن القدر شاء أن أكون شاهدا على رجال شكلوا أعمدة التاريخ المعاصر قادة ومطاردين من أجهزة القمع ومطلوبين لقوات الاحتلال، غير أنهم كانوا يتحركون بثقة الواثقين، صلابةً لا تفتها الأخطار وثباتا لا تنال منه العواصف. ومن بين تلك الوجوه استوقفني رجل استثنائي الحضور مهيب الطلعة أنيق المظهر يفيض بالكاريزما يكتنفه مزيج من الوقار والحزم… وبرغم صِغر سني يومها كنت أميز الفارق بينه وبين سائر الرجال؛ إنه الكبير والسياسي المخضرم والقيادي الذي صار أيقونة في مسيرة التحرر الجنوبي اللواء محمد ناجي سعيد… كان يتعامل ببرودة أعصاب رجل الدولة وهدوء العظماء ووقارٍ لا يُجارى؛ فما رأيتُ أحدا يضاهيه في توازنه وعمق شخصيته. السياسي والقائد الاول على مستوى الضالع والابرز على مستوى الجنوب الذي لعب دورا محوريا في تأسيس اللجان الشعبية وحركة حتم والحراك الجنوبي والمقاومة الجنوبية وسطر سجلا نضاليا حافلا سيظل حاضرا في ذاكرة الأجيال. ولم يكن والدي وحده من يخصه بمعاملة استثنائية ؛ بل كانت رموز النضال جميعا تنظر إليه كـ أبٍ روحي للثورة… وفي طليعتهم القائد عبدالله مهدي سعيد وأمين صالح وعيدروس الزبيدي وغيرهم من رجالات المرحلة؛ إذ كان اللواء محمد ناجي سعيد القائد الذي أضاء الدرب بفضل حكمته وحنكته وشجاعته الرجل الذي تحمل من أجل القضية الجنوبية أقسى صنوف القهر؛ نُفي، وسُجن، وصدر بحقه حكم بالإعدام لكنه ظل صامدا كالجبل، لا تلين له قناة ولا تنكسر له عزيمة. صحيح أن وقود الثورة سواء في حركة حتم أو في ميادين الحراك كانوا الشباب ذوي الطاقات المتدفقة والعزائم الفولاذية ؛ لكن البوصلة التي تحدد المسارات والإرادة التي ترسم الاستراتيجيات كانت تصدر من قاماتٍ مثل محمد ناجي سعيد… لقد كان بن ناجي شعلة لا تنطفئ وبوصلة لكل الأحرار الذين انتفضوا في وجه المحتل، لم يكن مجرد قائد ؛ بل كان رافعة استراتيجية للنضال الوطني ورمزا للمقاومة ودرعا سياسيا في مواجهة الجبروت والطغيان. و اليوم برحيله خسر الجنوب ركنا شامخا من أركان المشروع الوطني الجنوبي وصوتا حكيما كان مرجعا عند الملمات ومصباحا يبدد عتمات الطريق. رحل الثائر العظيم والمناضل الجسور الذي عاش بسيطا زاهدا بعيدا عن بريق المناصب وزخارف الأضواء… ما أعظمك يا ابن ناجي! وما أنبل مسيرتك التي نقشت بأحرف التضحية والإباء أنقى صور النضال! برحيلك طُويت صفحة مجد ناصعة وأفلت شمس من شموس الجنوب. سلام عليك في دار الخلود وسلام على سيرة ستظل منارة للأحرار ما بقيت الحياة.