بدأ التمرد الأوروبي لإنهاء التبعية لأمريكا بقيادة فرنسا؟ وهل بدأت العودة لإرث ديغول فعلا؟ هذا هو ردنا على مجلة “الايكونوميست” – مقال ل:عبد الباري عطوان
الأمر المؤكد الذي لا يمكن الجدال فيه ان ايمانويل ماكرون ليس تشارل ديغول، زعيم فرنسا التاريخي، ولا يمكن المقارنة بين الاثنين لأسباب عديدة يطول شرحها، ولكن مواقفه الأخيرة، أي ماكرون، تحاول ان تحاكي مواقف ديغول الاستراتيجية، وأبرز معالمها منع دخول بريطانيا الى السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي لاحقا) لأنه لا يثق فيها، وعدم الانضمام الى حلف “الناتو” الذي تتزعمه أمريكا.
صحيفة “الايكونوميست” البريطانية العريقة شنت في عددها الأخير هجوما شرسا على الرئيس ماكرون بسبب تصريحاته التي ادلى بها لعدد محدود جدا من الصحافيين كانوا في صحبته اثناء زيارته الأخيرة للصين، ووصفتها بأنها كانت خطيرة جدا وجاءت في التوقيت الخطأ.
ما أغضب المجلة العريقة التي تمثل العالم الرأسمالي الليبرالي الغربي بطريقة او بأخرى، وانعكس في افتتاحيتها التي يتابعها معظم زعماء العالم الغربي خاصة، وتصدرت عددها الأخير، قول الرئيس الفرنسي الذي وصفته بأنه من أكثر القادة الأوروبيين خبرة “انه ليس من شأن القارة الأوروبية الوقوع في أزمات ليست من اختصاصنا، وباسم الحكم الذاتي الاستراتيجي، ولا يجب ان نكون في أوروبا اتباعا لأمريكا في ازمة مثل ازمة تايوان”.
***
ماكرون من وجهة نظر المجلة ارتكب خطأين قاتلين:
الأول: تعزيز طموح الصين ورئيسها في تقسيم القارة الأوروبية، وفصل الأوروبيين عن أمريكا.
الثاني: تقويض دعم الحلفاء لتايوان لان الدبلوماسية وحدها لن تقلل من مخاطر الحرب، والغرب يحتاج الى تعزيز الردع العسكري، مما يتطلب تعزيز التحالف الغربي الأمريكي الأوروبي في وجه الاستبداد.
الرئيس ماكرون لم يكن يمثل نفسه بإلقائه مثل هذه التصريحات، ومتى؟ أي بعد قيامه بزيارة الى الصين، ولقائه مع رئيسها في إجتماع مغلق استمر أكثر من ثلاث ساعات، وإنما استنادا الى حصيلة معرفية مزدوجة، الأولى بوجود تيار أوروبي متصاعد يدعم هذا الموقف الانفصالي عن أمريكا، والثانية التوصل الى قناعة بأن القارة تورطت من قبل الامريكان في حرب في أوكرانيا سيكون النصر فيها حتما للتحالف الروسي الصيني، وبما يؤدي في نهاية المطاف الى استنزاف أوروبا ماليا، وزعزعة أمنها واستقرارها، وهذا ما يفسر سعي ماكرون الحثيث لبدء مفاوضات مع روسيا لوقف هذه الحرب، وزيارته لبكين جاءت في هذا الإطار.
أوروبا، وباسم “الحكم الذاتي الاستراتيجي” تحت الهيمنة الامريكية، أصبحت فاقدة للاستقلال، وتابع ذليل لواشنطن، وتبني سياساتها القديمة المتجددة المنتهية صلاحيتها، وخوض حروب لا ناقة فيها ولا جمل، وتأتي لخدمة الطموحات الامريكية الذاتية في الاستمرار في التربع على عرش القوة في العالم، بإضعاف، وربما تدمير، المنافسين مثل روسيا والصين.
ماكرون، وبعض القادة الأوروبيين الآخرين ادركوا قصر نظر، سوء تقدير المؤسسة الامريكية بمخاطر المقامرة الاستفزازية لروسيا، ودفعها الى التدخل عسكريا في مصيدة أوكرانيا، وها هي تحاول تكرار الخطأ نفسه في تايوان، ومع الصين، وبذلك تتورط أوروبا في حربين، مع أخطر قوتين نوويتين في العالم.
أمريكا غاضبة من فرنسا، ورئيسها ماكرون، لأنها تحرض الحكومات الأوروبية وبشفافية مطلقة على عدم الانضمام اليها في أي حرب قادمة ضد الصين في تايوان، والأهم من ذلك عدم الإستفادة الامريكية من القواعد الفرنسية العسكرية في المحيطين الهندي والهادي التي تعول عليها كثيرا في أي حرب قادمة، وربما وشيكة.
***
أمريكا، وبغباء دولتها العميقة، خسرت نفوذها في معظم منطقة الشرق الأوسط، وها هي توشك على خسارة حليفها الأوروبي الاستراتيجي، ولعل تصريحات ماكرون “المقصودة” التي تعكس تمردا عليها، هي أول الغيث، خاصة انها تريد حروبا بالإنابة في أوكرانيا وتايوان، ودون ان ترسل جنديا أمريكيا واحدا، والاعتماد كليا على حلفائها للقيام بهذه المهمات القذرة نيابة عنها.
دول الشرق الاوسط، وخاصة المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، كانت مصيبة في التوجه شرقا الى الصين المستهلك الأكبر لنفطها، والشريك التجاري الأول لها، وشمالا الى روسيا الشريك الاستراتيجي الأكبر في انتاج النفط والغاز، وإدارة ظهرها كليا للابتزاز الأمريكي وحروبه المدمرة في المنطقة تحت مبررات كاذبة ولمصلحة الكيان الإسرائيلي.
ندرك جيدا الماضي الاستعماري لفرنسا، مثلما ندرك أيضا انحياز حكومتها الحالية لبعض السياسات الفاشية الأوروبية التي تعادي الإسلام، وتوفر الغطاء لحارقي القرآن الكريم، والمتطاولين على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، باسم اكذوبة حرية التعبير، ولكن هذه الصحوة الأوروبية المعارضة للتبعية الامريكية وحروبها بقيادة فرنسا تستحق الدعم والمساندة، بل والتشجيع، فمعظم مآسينا وكوارثنا في الشرق الاوسط والاتحاد المغاربي جاءت بفعل المؤامرات والتدخلات الامريكية.