تكتسب الحركات الإسلامية الحديثة مضمونها و مقوماتها في الوعي العام من عنوانها. فهذه الحركات الإسلامية تعتقد، كما يعتقد معظم الناس، أنها مبنية وفق قواعد الإسلام، و تقوم و تمضي وفق هذه القواعد. جلّ هذا الإعتقاد يستند إلى عنوان هذه الحركات و هو “الإسلام” المضاف إليها كنسبة و تعريف. لست من أعداء الإسلاميين. بل نشأت منذ نعومة أظافري على أدبياتهم كما على أدبيات غيرهم، و نهلت من ثقافتهم كما من ثقافة غيرهم. لكن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من دراسة و معاينة و بحث لهذه الحركات، ثم دراسة التأريخ الغربي في الغرب أكاديمياً، و دراسة التأريخ الشرقي كباحث، وصلت إلى تلك الخيوط التي تفسر لي كيف و لماذا نشأت هذه الحركات الإسلامية، في سياق له جذوره و أسبابه و منطلقاته. هذا السياق يمتد في عمقه في البروتستانتية المسيحية، التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا، و كذلك في التنوير و الحداثة الأوروبيين.
حتى يستطيع القارئ العربي تكوين نظرة واضحة للموضوع سأتحدث أولا عن السياق البروتستانتي المسيحي في أوروبا، ثم أتحث عن مرحلة ما بعد الحركة البروتستانتية التي عصفت بأوروبا. ثم بعد ذلك أفصّل في الحديث عن الإحيائية الإسلامية التي ظهرت إلى الوجود منذ القرن التاسع عشر تحت تأثير هذين الرافدين. أرجو أن يتسع صدر القارئ العربي في هذه السلسلة التي تمتد إلى سبع حلقات. على أنني تحدثت في مواقع أخرى عن كيفية نشوء حركة النهضة الأوروبية وحركة الإصلاح الديني في أوروبا، وللقارئ أن يبحث عن ذلك في النت من أجل إحاطة أعنى بالموضوع.
انطلقت المعارضة المسيحية المسماة بالبروتستانتية (تعني المعارضة)، في القرن السادس عشر الميلادي، في شمال أوروبا و تحديدا في ألمانيا على يد عدة رجال دين مسيحيين و أشهرهم هو مارتن لوثر (القسيس، بروفيسور علم العقائد، و الموسيقار 1483-1546). قبل ذلك، و تحديدا على مشارف نهاية القرن الخامس عشر، نشأت في شمال أوروبا قناعة عامة لدى الناس، أن إصلاح الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية (الرومانية) بات أمراً ملحاً لا مفر منه. و هذه المعارضة التي أفصحت عن نفسها، بدأت أول ما بدأت، برسالة لوثر التي تضمنت 95 نقطة مناقشة للإعتراض على الآداء الكنسي على المستويين الديني و السياسي. صكوك الغفران هي التي تسببت في ظهور هذه الرسالة الجدلية الإعتراضية للوثر التي اتسعت في ما بعد، وامتدت لتتحول إلى شرارة غيرت أوروبا تغييرا عظيما.
بدأت الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ببيع صكوك الغفران للمسيحيين، مقابل تقليل فترة الطهور في يوم القيامة. أي أن المسيحي الذي يدفع المال إلى الكنيسة سيحصل على غفران لذنوبه بقدر المال المدفوع، مما يجعل أمر خلاصه من العذاب في الآخرة أسرع و مرحلة عذابه أقصر. تطور الأمر لاحقا إلى السماح للمسيحيين بشراء صكوك الغفران لأقربائهم الأموات. كانت الكنيسة تحتج أنها تصرف هذه الأموال للعمل التبشيري و الخيري، كإعادة ترميم كاتدرائية القديس بطرس بروما. لكن أعضاء الكنيسة بدأوا يسمنون من هذا المال الذي وصفه الفن الأوروبي آنذاك في إطار ساخر، حيث رسم الفنانون صورة أعضاء الكنيسة و رجال الدين في هيئة السمنة وهم يأكلون لحم الأموات. من المفيد أن نشير هنا إلى أن نظرة الكنيسة اللاتينية إلى المال كانت نظرة سلبية، حيث اعتبرت الكنيسة المال ضمن دائرة “المدنس البشري Profane” وهو مصطلح يقابل “المقدس الإلهي Devine” لكن هذه النظرة السلبية تغيرت في نهاية مرحلة النهضة الأوروبية (الرينيسانس) التي ظهرت في إيطاليا مع بداية القرن الرابع عشر و وصلت إلى أوجها مع نهاية القرن الخامس عشر. لكن المفارقة كانت في التناقض بين نظرة الكنيسة السلبية إلى المال، و موقف الكنيسة و رجالها من المال الذي تجمّع في أيديها. هذا المال المتراكم في الكنيسة جعل رجالها أغنياء. تزامنا مع هذا، ظهر فساد من نوع آخر في الكنيسة و يُسمى بـ “الصايمونية”، وهي حصول رجل الدين الواحد على عدة وظائف في أكثر من كنيسة في المدينة و أريافها. و بما أن رجل الدين الواحد لم يكن قادرا على أداء عدة وظائف في وقت واحد، فكان يلجأ إلى بيع هذه الوظائف إلى رجال دين آخرين مقابل نصف راتب، و هذا ما أتاح للكثيرين من أعضاء الكنيسة جمع ثروة كبيرة من وراء هذا الإلتفاف، الذي اعتبره البروتستانتييون عملا يخالف تعاليم الدين المسيحي.
رد لوثر على الكنيسة بأنها وقعت في تناقض واضح، وهو بيع المقدس الإلهي (الغفران) بالمدنس البشري (المال)، أي أن المال الذي يعتبر مدنساً بشرياً، كيف له أن يشتري ما هو مقدسٌ إلهي (الغفران لفترة الطهور). وبهذا الإعتراض، وضع لوثر الكنيسة وسلطة البابا في موقف حرج للغاية. ثم اتسعت معارضة لوثر للكنيسة حيث ضربها في الصميم، إذ دعا إلى العودة إلى النسخة الأولى من المسيحية (مرحلة السلف)، أي القفز على أسوار الكنيسة نحو الفهم الصحيح للمسيحية، وفق رؤية و فهم الرعيل الأول من المسيحيين (المسيح و تلامذته و أتباعه). بهذا الجدال، فتح لوثر باب القضاء على إحتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، و فتح باب الفهم للناس كافة. و يعني هنا أن لوثر و الإصلاحيين البروتستانت، ما هم إلا دعاة سلفييون (السلفية المسيحية)، مع مفارقة واضحة جدا مع (السلفية الإسلامية) من جهة النتائج المترتبة على الدعوتين. فالدعوة السلفية المسيحية أدت إلى التخلص من التراث الكنسي المحدود و الجامد، و فتح باب الإجتهاد الذي لعب دورا كبيرا في تغيير أوروبا. لكن الدعوة الإسلامية السلفية أدت إلى الضمور و التخلف، لأنها طمست التراث الإسلامي الذي كان وليد إجتهاد عظيم، خلّف تراثا غنيا منفتحا و عميقا. سأعود لشرح هذه النقطة في الحلقات القادمة.
لم يهدف لوثر إلى شق الكنيسة الكاثوليكية، و إنشاء مذهب جديد، كما هو مشاع. لكنه كما صرّح بنفسه، أراد إصلاح الكنيسة و الفساد الذي عصف بها. لذلك رفض لوثر دعم ثورة ثوماس مونتسر (1489-1525) الذي قاد الفلاحين في ألمانيا في حرب شهيرة ضد سلطة الأمراء في عامي 1524-1525. فاعتبر لوثر حركة مونتسر مخالفا للدين و السلطة التي هي ظل الله في الأرض. تبرّأ لوثر من مونتسر وشجب ثورته، مع أن مونتسر كان يكن إحتراما شديدا للوثر، لكن مونتسر شق طريقه وهو مخذول من لوثر.
كان أهم ما دعى إليه لوثر في معارضته هو أن الإيمان بالمسيح يكفي للخلاص يوم الدينونة، و ليس العمل هو الذي يخلّص المسيحيين. وهذه الرؤية شكلت خطرا واضحا على الكنيسة و ارتباطاتها مع الرعية، لأن شراء صكوك الغفران بدأ في التراجع، في ظل هذه الرؤية الجديدة للعقيدة المسيحية، مما كان يعني ضربة إقتصادية كبيرة للكنيسة. في إثر ذلك، أستدعي لوثر للمثول أمام محاكم الكنيسة، للرجوع عما بدر منه. تعنّتَ لوثر، فحوّل جلسات محاكمته منذ عام 1518 إلى إدانة للبابوية، واعتبرها بدعة غير منصوص عليها في الكتاب المقدس. في عام 1520، أصدر البابا ليو العاشر مرسوما بطرد لوثر و حرمانه الكنسي، حتى أعتبر بعد ذلك شخصاً خارج القانون.
البروتستانتية فتحت مسألة إنعتاق المسيحيين و إشعال معارضتهم للسطوة الكنسية، عبر الدعوة السلفية و هي العودة إلى الرعيل الأول و فهم الكتاب المقدس فهما صحيحا، و محاربة بدع الكنيسة التي قوّضت حرية المسيحيين و دينهم. كانت النتيجة مذهلة حقا، حيث كان هناك إصلاحييون معارضون للكنيسة معاصرون للوثر، كانوا قد أعلنوا معارضتهم على الملأ مثل جون كالفن، هولدريخ زفينكلي، كاثرينا شوتس زيل، مارتن بوسر، يان هوس …الخ. هؤلاء الإصلاحييون فجروا ثورة عظيمة في أوروبا، كتواصل مع تراث النهضة (الرينيسانس) لتفجر كوامن مرحلة التنوير و الحداثة في مراحلها اللاحقة، سَرَتْ عبر مخاضات عسيرة و دموية.