باعتباري أحد أشد المتعصبين، كنا في الجنوب ننظر إلى الوحدة اليمنية بأنها تحولت إلى كابوس على الجنوب دون الشمال لطالما كانت نظرتنا إلى الوحدة التي أصبحت مجرد شماعة لقادة الشمال (عصابة حرب صيف 1994م) للسيطرة على ثروات الجنوب ولصالحهم الشخصي فقط، واتبعوا سياسة خطيرة تمثلت في محاولة القضاء على كل ما هو جنوبي، من ثقافة وهوية وتاريخ، كما سعت عصابة صنعاء تلك حتى إلى محاولة تغيير الديموغرافيا في الجنوب. وهذه حقيقة لا خلاف عليها ولا يستطيع أحد إنكارها.. هكذا بينما تولدت لدى الجنوبيين قناعات أن هذه الوحدة جاءت لضربهم وطمس هويتهم وظلمهم، بالمقابل يؤمن أبناء الشمال أن تلك الوحدة بمثابة نصر لهم وإنقاذهم من براثن الجوع وأنها اي -الوحدة- تمثل مستقبل قوتهم وتطورهم، إذ تكونت أفكارهم وقناعاتهم هذه من منظور سعة الأرض الجنوبية وما تكتنزها من ثروات، وظلت النظرة تقتصر على الجانب المادي الذي استفادت منه عصابة بعينها ليس الا عملت وتعمل على تصوير الجنوب بـ الفردوس المنقذ للشمال.. وبين القناعتين للشعبين أمور لا تزال مخفية أو يمنع الاقتراب منها والتفكير بها. هذه الوقائع التي يهرب الجميع من التعاطي معها وهي أن الوحدة اليمنية التي فشلت في مهدها ولم يكتب لها النجاح كانت قد تحولت أن لم تكن خلقت كـ “مولود نحس” للشماليين قبل الجنوبيين، من خلال تحول المشروع (الوحدة اليمنية) إلى مشكلة فتحت أبواب عشرات المشاكل وعملت وتعمل حتى اللحظة على تعقيدها وتشعبها.. وبينما انفردت دول الجوار والمنطقة العربية ومعظم دول العالم النامية خلال العقود الثلاثة الماضية في بحث إمكانيات تطوير ذاتها بتحقيق الاستقرار والأمن ومعالجة مشاكل التعليم ومن ثم التفرغ لتطوير آليات اقتصادها ونجحت غالبية هذه الدول بتحقيق قفزة نوعية كبيرة في الجانب الاقتصادي بدءاً بتأمين بنيتها التحتية ثم إحداث تغييرات جذرية نحو الأفضل في مجالات الاقتصاد والتعليم وتأمين مستقبلها وتحقيق تنمية عملاقة.. ظلت اليمن (شمالاً) منشغلة بطفلها المشوه تحاول إقناع الشعب بقدسيته وتاجج الشارع للقتال في سبيل الحفاظ عليه مستخدمة كل إمكاناتها البشرية والمادية وحتى الدينية. و(جنوباً) يبحث عن الخلاص من اللعنة، فلا الشمال استطاع إحياء المولود ولا الجنوب استطاع الخلاص بعد مضي ثلاثين عاماً على حرب صيف 1994م، وليت الأمر وقف عند هذا الحد.. اليوم لم يعد يشبه الأمس بشيء، ولم يعد للدولة أي وجود ولو شكليا يقابل هذا انهيار الأمن وتدفق دماء الابرياء من عامة الشعبين الذين يقاتلون شمالاً وجنوباً في حرب لا يدركون مسارها ولا نتائجها وأهدافها.. يعيش السكان شمالاً وجنوباً أوضاع معيشية متردية فالفقر أصبح المهيمن على الغالبية، الذين لم يعد بمقدورهم توفير ثمن وجبة يومية واحدة، فلا وظيفة ولا رواتب ولا عمل ولا دواء ولا أمن ولا أمان ولا حرية ولا تعليم ولا يحزنون.. حتى الأخلاق والقيم أصبحت مجرد صفات عتيقة لا جدوى منها اليوم، ومجرد بلطجي مشرد أصبح سيد القوم وكبيرهم الذي يخشاه الجميع لأنه القائد والقانون والآمر والناهي في كل صغيرة وكبيرة ويمكنه تغييب حياتك بمجرد ضغطة على زناد بندقيته دونما يجروء أحداً أن يتكلم بل على الجميع منح المجرم المبررات والحجج التي دفعته لقتل ذلك المسكين.. ثلاثة عقود من الضياع كانت كفيلة أن تحول الدولتين الشمال والجنوب إلى أغنى بلدان المنطقة أن كان الطرفين اقرا بفشل مشروع الوحدة حينها وعادا إلى كيانيهما حسب ما كانا عليه قبل العام 1990م. وها نحن اليوم نستعد للولوج الى العقد الرابع منذ وجود (اللعنة) سندخل حاملين ذات التابوت وان اختلفت نظرة كل منا تجاهه ففي النهاية سيستمر الصراع والتفكك والتخلف والمجاعة والجريمة وستصبح المنطقة شمالاً وجنوباً بيئة حاضنة للإرهاب والتطرف ومساحة حروب لتصفية حسابات الدول الخارجية بينما يسعى كل من الشمال والجنوب للسباق من سيتم قبوله أداة لتلك الدول ليس الا.. فهل ستوجد هناك في الشمال قبل الجنوب نخبة من العقلاء ذوي النظرة العميقة البعيدة وسيعملون على توعية أقرانهم بضرورة التخلص من جثة الوحدة ودفنها والتفرغ لبناء الدولة الحقيقية القادرة على مواكبة التطورات العالمية، ومثلهم بالتأكيد ستكون هناك نخبة جنوبية ستعمل على بناء دولة الجنوب المستقلة القائمة على أسس العدالة والمساواة وتشجيع التعليم والاقتصاد واللحاق بدول العالم المتقدمة..