الصدارة سكاي/القسم السياسي
القضيــة الجنــوبيــة
لم تكن القضية الجنوبية وليدة حرب 2015 بل إن جذورها الحقيقية تعود إلى الأزمة السياسية عقب توقيع اتفاق الوحدة الاندماجية بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي وهي الأزمة التي ازدادت حدتها عقب غطرسة نظام صنعاء الذي أقصى الجنوب وشن عليه حرب صيف 1994 الظالمة التي أخرجت الشريك الجنوبي تمامًا من المعادلة السياسية وأصبح شعب الجنوب يقبع على رصيف البطالة والفقر والحرمان من تكافؤ الفُرص، والإبعاد القسري لكوادره.. من هنا ضربت القضية الجنوبية جذورها في تراب الوطن الجنوبي حتى اشتد عودها وبرزت شعبيًا عبر الاحتجاجات العارمة التي شهدها الجنوب من المهرة إلى باب المندب لسنواتٍ طوال خاضتها قوى الجنوب المدنية والعسكرية والأمنية والمجتمعية والطلاب والمثقفين، فكان الحراك السلمي الجنوبي تجسيدًا لإرادة صلبة تستند إلى قوة الحق وعدالة القضية التي يتفق الجميع بأنها قضية سياسية بامتياز ولن تجدي الحلول الترقيعية لها، أو التخدير الموضعي خصوصًا بعد تكرار اجتياح الجنوب عسكريًا من قبل ميليشيات الحوثي وجيش عفاش في العام 2015، والحل يكمن باستعادة دولة الجنوب المستقلة بحدودها قبل مايو 1990 وفقًا لرؤية الحراك السلمي الجنوبي التي تبناها المجلس الانتقالي الجنوبي وطورها ووقع في مايو 2023 ميثاق الشرف الجنوبي الذي حظي بإجماع معظم المكونات والأحزاب التي تمثل شعب الجنوب، وبهذا فقد أصبح المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم الصوت الصادح بالقضية الجنوبية وهو المكون الأكبر شعبية جنوبًا.
ويؤكد مراقبون وسياسيون بأن الهرولة السعودية باتجاه الحوثي تنم عن رغبة المملكة في الخروج من المستنقع اليمني بأسرع وقت ويهمها في المقام الأول مصالحها فقط بغض النظر عن مصالح حلفائها، بل وقد تذهب بعيدًا بتوقيع اتفاقات ثنائية مع الحوثي كنتيجة للحوار النشط معه عبر القناة العمانية أولًا، ليتطور إلى حوار مباشر في كل من صنعاء والرياض ثانيًا، وزيارات مكوكية برفقة الوسطاء العمانيين، وبالطبع سبق هذا الحوار المباشر اتصالات وتفاهمات سعودية إيرانية تكللت بوساطة صينية في مارس أذار 2023 غير ظاهرة حتى الآن خفاياها سوى ما تم الإعلان عنه في بيان مشترك يتيم ومقتضب.
وبالعودة إلى القضية الجنوبية يشعر الجنوبيون بأنهم يتعرضون للغدر والخذلان من قبل التحالف، إذ أنهم مضوا مع التحالف لتحقيق أهداف عاصفة الحزم وحققوا إنجازات بتحرير المحافظات الجنوبية في زمن قياسي وكسروا شوكة الحوثي في الجنوب، وهو الأمر الذي عجزت القوى المناهضة للحوثي عن تحقيقه في المحافظات الشمالية ومعها يُسجّل عجز التحالف وعاصفته.
تعبر كثير من القوى السياسية والمجتمعية الجنوبية وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي عن رغبتها في السلام ووقف الحرب لأنها ليست خيارًا بحد ذات، لكنها تؤكد عزمها المضي قدمًا في الدفاع عن الجنوب ومكتسباته بكل الوسائل المتاحة، لذلك فالجنوب وقضيته اليوم بات رقمًا مهمًا في المعادلة السياسية ويجب أن يشارك بوزنه الحقيقي في معادلة السلام العادل والشامل والاستحقاقات القادمة.
فشل التحالف في هزيمة المشروع الحوثي عسكريًا
يرى مراقبون محليون وأجانب بأن التحالف الذي تقوده السعودية قد فشل عسكريًا وعجز عن تحقيق أهدافه المعلنة وهو الأمر الذي دفع المملكة للبحث عن طريق للخروج من المأزق عقب ثمان سنوات من الحرب التي عجز فيها التحالف وجيش (الشرعية) عن تحرير محافظة واحدة شمالًا ناهيك عن استعادة صنعاء والشرعية وقطع يد إيران.. وهي مفردات طالما رددها الإعلام وأطربنا بها، ولكن هذا الخروج يبدو أن المناطق المحررة (المحافظات الجنوبية) ستدفع الفاتورة الأكبر له وقد بدأت فصول هذا التوجه بامتناع المملكة عن صرف رواتب المقاومة الجنوبية وقطع الدعم والتموين لهذه القوات التي كسرت شوكة الحوثي بمعية قوات التحالف وأبليت بلاءً حسنًا في الساحل الغربي وصولًا إلى مشارف مدينة الحديدة مُقدمة آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، وكذلك محاربتها للتنظيمات الإرهابية في كل من عدن ولحج وأبين وشبوه وحضرموت وحققت نجاحات كبيرة حظيت بإشادة المجتمع الدولي.
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تصاعد خنق الجنوب اقتصاديًا وكتم أنفاسه حيث تراجعت القيمة الشرائية للعملة المحلية بشكل كبير وأصبح شعب الجنوب يعاني الأمرين من أجل تأمين القوت الضروري للحياة، وتفاقم الأمر أكثر بتقديم التنازلات للحوثي من قبل قائدة التحالف العربي دون مقابلٍ يُذكر إلا استمرار الصلف والتعنت من قبل الميليشيات ونهب البسطاء من عامة الشعب في مناطق سيطرتهم، فأوعزت الشقيقة الكبرى بفتح ميناء الحديدة دون قيد أو شرط يلزم الحوثي بالحفاظ على قوانين وقواعد التجارة ومنعه من ابتزاز التجار وهو الأمر الذي أدى إلى لجوئه للضغط على كبار التجار والمستوردين بالاستيراد عبر ميناء الحديدة وترك ميناء عدن ولم تحرك حكومة الشرعية المشلولة ساكنًا، ولم تنبس المملكة ببنت شفه، وكأن عاصفة الحزم ضلت طريقها واستدارت جنوبًا كما وصف الكاتب الدكتور أحمد عبداللاه في مقالٍ نشره في عدد من المواقع والصحف المحلية ونقتبس منه قوله: ” وسنة بعد سنة ينكشف عجز المملكة أمام من صُنعت العاصفة لاقتلاعهم، وهي التي قدمت نفسها في ليلة ليلاء من آذار ٢٠١٥م بأنها المنقذ المفترض لشعبٍ يتآكل بفعل الحروب والفقر والأمراض، لكنها وبعد سنين من العجز حقّ عليها القول بأنها هي من تحتاج عاصفة داخلية لاقتلاع جذور العتمة المهيمنة على سياساتها وعلى عزلة صناع القرار عن الواقع.”
وأضاف الكاتب: “لقد أثبتت المملكة أنها لا تشبه إلا ذاتها المعتّقة ولا تنجح إلا في إفشال حلفائها الحقيقيين في الدول العربية على أيدي أجهزتها المحنّطة في صناديق الفساد والبيروقراطية والولاءات المتضادة، فتكسرت عاصفتها فوق الرمال المتحركة وعادت قافلة قريش مسلوبة بعد أن أفرغت حمولاتها في أيدي اللصوص.”
ويرى خبراء ومحللون أن الحوار المباشر بين المملكة– التي تقدم نفسها كوسيط رغم عدم استيعاب هذه الوساطة من قبل أي مراقب يقرأ الوضع بحيادٍ تام — وبين الحوثيين وتغييب الشرعية التي تتخذها السعودية أداةً بيدها وسوف تستدعيها وقت الضرورة ربما لشرعنة ما قد يتم التوصل إليه وتوقيعه في مقبل الأيام.
وحده القلق يجتاح الشارع الجنوبي الذي يرى بأن قضيته —رغم عدالتها ومحوريتها— مازالت خارج دوائر الحلول، أي أنها لم تلقَ الاهتمام الذي تستحقه ويخشى الشارع الجنوبي من تهميش قضيته وإسقاطها من بين الملفات البارزة التي ينبغي حلها قبل التوقيع على أي اتفاق سلام أو أي حديث عن صيغة ومقاربة للحل النهائي للصراع.
هرولة المملكة نحو الحوثي والحديث عن السلام
يرى مراقبون —أن ماراثون الحوارات والمشاورات التي خاضتها المملكة مع الحوثيين بمعزل عن حلفائها وبمعزل عن الشرعية والتي لعبت فيها عمان دور الوسيط — بأن المملكة في طور إعادة ترتيب أوراقها السياسية بعد اقتناعها بفشل الورقة العسكرية، وربما استشعارها بأنه يتم إغراقها في اليمن بتواطؤ بعض القوى الغربية التي لا ترغب في إنهاء الصراع عمّا قريب، وتغض الطرف عن وصول الأسلحة للحوثي من حليفته إيران، وتلعب بورقة الحرب في اليمن لإنهاك المملكة اقتصاديًا ولأسباب سياسية كثيرة تندرج ضمن استراتيجيات الغرب في الحفاظ على هيمنته لاسيما في ضوء ازدياد وتيرة صراعات القوى الكبرى والحديث عن بداية تشكُّل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بقيادة الصين وروسيا والهند والبرازيل، ويرى آخرون أن الحوارات الأخيرة تتم بغطاء وضوء أخضر أمريكي- بريطاني وهما الطرفان اللذان يحرصان على إنهاء الصراع في اليمن للتفرغ للحرب الروسية الأوكرانية التي باتت شغلهما الشاغل، والقاسم المشترك هنا هو المصالح العابرة للدول والحدود للقوى الكبرى وما تحمله من مساومات وتناقضات ومصالح متعددة الأوجه.
ويشير سياسيون إن الحديث عن السلام مع الحوثي بلا محتوى حقيقي، بل واعتراف بانقلاب الحوثي من خلال سياسة الاسترضاء له ويقول السياسي البارز الدكتور ياسين سعيد نعمان بهذا الصدد في مقال نشره على حائط صفحته بفيسبوك وتداولته وسائل الإعلام المحلية على نطاق واسع بعنوان (كي لا يكون سلامًا أشبه بسد درنة الليبي) يقول د. ياسين: ” استقبل الحوثي الوفود في صنعاء في مشهد أخذ يسوقه في مناطق سيطرته وعموم اليمن والعالم بأنه انتصر على “العدوان”، والحقيقة أن تلك الزيارات جاءت في غير أوانها تماماً مثلما هو حال الحديث عن سلام بلا محتوى حقيقي يعكس تضحيات اليمنيين والأشقاء في التحالف في مواجهة الانقلاب، ومَن وراءه ، وأبعاده الخطيرة على المنطقة. كل هذا والحوثي يكبر داخل ذاته المتشرّبة بحقه الإلهي في الحكم، وتكبر معه المشكلة ويتعقد الحل.”
ويضيف د. ياسين: ” التناقض الخطير بين الخطاب الذي يحمل مشروع السلام إعلامياً والمتمسك بالمرجعيات الثلاث، وبين ما يجري على أرض الواقع من استرضاء للحوثي على نحو لا يفهمه إلا بأنه اعتراف بانقلابه، من خلال سياسة الاسترضاء، والتنازلات التي تقدم له يومياً، وتجعله يتمسك بموقفه من أن السلام لن يكون سوى الاعتراف بانقلابه وأنه لن يقبل بذلك بديلا، عدا ربما بعض التعديلات التي لا تغير من المعادلة كثيراً، وهو ما يصبح معه السلام، فيما لو تم على هذا الاساس، أشبه بسد درنة الذي بُني لحماية المدينة لكنه أغرقها في مياهه وطميه. “
الوساطة العمانية.. تقاطع مصالح وتقاسم نفوذ
بدأ التفاوض بين المملكة والحوثيين في العام 2019 عبر الوساطة العمانية وشهدت مسقط لقاءات متعددة بين ممثلين عن السلطات السعودية وسلطات الحوثي بعضها معلن ولقاءات سرية لم يعلن عنها، وهو ذات العام الذي شهد توقيع اتفاق الرياض بين الشرعية اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي برعاية السعودية التي حاولت تقليص مساحة الخلافات وتقريب وجهات النظر بين صفوف القوى المناهضة للانقلاب الحوثي وهو الاتفاق الذي لم يُستكمل تنفيذه لأسباب كثيرة منها ما هو معروف ومنها ما هو مجهول أو بشكل أوضح متعلق بسياسة دول التحالف التي يستنتج المراقبون تباين مواقفها واختلافها في إطار تقاطع وتضارب المصالح والنفوذ.
ويرى محللون أن الزيارة الأخيرة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بمعية وزير الدفاع خالد بن سلمان إلى عمان ولقاء قادة السلطنة إنما أتت لوضع اللمسات الأخيرة على تقاسم النفوذ بين المملكة السعودية وسلطنة عمان في المحافظات الجنوبية الشرقية (المهرة و حضرموت)، خاصة أن المملكة استراتيجيًا تسعى للحصول على منفذ أو إطلالة على البحر العربي، وبذات الوقت تطمئن جارتها سلطنة عمان التي تمتلك نفوذًا كبيرًا في محافظة المهرة وهو ما ترغب المملكة في الاستفادة منه لترسيخ نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي.
تقاطع المصالح السعودية العمانية شرقي اليمن يقابله توجس إماراتي من هذا التقارب نظرًا للعلاقات غير الصحية التي تربط الإمارات وعمان لأسباب جيوسياسية وتاريخية، وهو الأمر الذي قد يدفع أبو ظبي إلى تعزيز نفوذها عن طريق دعم حليفها المجلس الانتقالي الجنوبي من أجل تحقيق قدر من التوازن، وبات التنافس الإماراتي- السعودي أكثر وضوحًا في حضرموت.
هذا المشهد الذي يبدو معقدًا للغاية لا ينذر بوصول الأطراف في الوقت القريب إلى صيغة نهائية لسلام شامل ومستدام بسبب بقاء العديد من الملفات المتداخلة بين القوى الإقليمية، وملف القضية الجنوبية وهو الملف الأبرز والشائك الذي من غير الواضح كيف ستتعامل معه القوى الدولية الكبرى على وجه التحديد؟، كما أن انفراد السعودية بالتفاوض مع الحوثي بمعزل عن حلفائها لن يأخذ بالحسبان مصالح كل القوى وعلى رأسها القوى الجنوبية بل ستنجرف المملكة باتجاه تأمين حدها الجنوبي بغض النظر عن الثمن الذي قد يدفعه حلفاؤها وفق ما تراه الأوساط السياسية والصحفية في الجنوب، وما قد تدفعه المملكة مستقبلًا في ضوء وضوح انعدام رغبة الحوثي ومن خلفه إيران في إبرام اتفاق سلام دائم يكون فيه الحوثيين مكون سياسي له ما للمكونات والأحزاب السياسية وعليه ما عليها، لا كيانًا فوقيًا سلاليًا طائفيًا يدعى بحقه الإلهي المقدّس في الحكم والاستئثار بكل شيء.
خيارات المجلس الانتقالي الجنوبي
المجلس الانتقالي الجنوبي الذي دخل في شراكة بحكومة الشرعية بتمثيل وزاري، وشراكته في إطار مجلس القيادة الرئاسي يؤكد مراقبون أن ذلك يمنحه أوراق ضغط وهامش مناورة رغم التحديات الكبيرة وواقع الضغوط التي يتعرض لها من أجل تقديم التنازلات في مسار حل القضية الجنوبية ويقول الكاتب الصحفي صلاح السقلدي في مقال نُشر منذُ أيام: ” تجاوز القضية الجنوبية محليًا وإقليميًا ودوليًا بات مستحيلا تماما بعد أن أصبحت ملء السمع والبصر، وبالمقابل كل المؤشرات تقول: إن المشروع الجنوبي الطامح لاستعادة الدولة بالجنوب يتم قمعه بشراسة ليس فقط من قِبل خصوم الجنوب التقليديين المحليين بل من قوى إقليمية وازنة السعودية أبرزها.”
وعن خيارات المجلس الانتقالي الجنوبي يقول السقلدي: ” ما يزال لدى الانتقالي أوراق فاعلة إن كان لديه النية لتصحيح الوضع المختل ولتحسين وضع القضية الجنوبية فوق طاولة التسوية القادمة ولتقليل حجم الخسارة، أهم هذه الأوراق: التحلل من الشراكة السياسية التي صارت عبئًا على القضية الجنوبية وأصفاد تكبّل المجلس نفسه وتقضم من رصيده الجماهيري، والعودة عوضا عن ذلك إلى صف الجماهير وتوحيد الجبهة الجنوبية المتضعضة، بعيدا عن فوبيا ورُهاب التحالف”.
ويختتم الكاتب مقاله قائلًا: ” فهذا التحالف المخادع في الوقت الراهن أضعف من أن يفعل حماقة، فهو يحاول أن يلملم شتاته ويخرج من ورطته، وليس مستعدا لفتح جبهة مع أحد، أو بمعنى أوضح هو في لحظة يسهل انتزاع الحقوق منه، ولو بأسلوب الابتزاز والانتهازية كما تفعل معه الأحزاب.. فهل سنرى موقفا مغايرًا من الانتقالي يرتقي لحجم التحدي؟”