في إطار من التكتم والغموض أجرت المملكة العربية السعودية، مفاوضات وصفها مراقبون بالشاقة، مع جماعة الحوثي، وبعيدًا عن أطراف الصراع اليمنية الرئيسية الأخرى، وهي المعادلة التي سعت الجماعة الحوثية منذ البداية لفرضها والتعامل وفقها، من خلال إصرارها على التفاوض مع المملكة فقط، وليس مع حلفاء المملكة في الداخل اليمني، الأمر الذي حاولت المملكة العربية السعودية تفاديه من خلال سعيها لأن تكون وسيطًا في المفاوضات لا طرفًا فيها وه ما لم يتم .
وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية علت أصوات السلام وحديث المفاوضات التي تجري بسرية تامة، بوساطة عُمانية، بغية التوصل إلى توافقات وإجراءات عملية تمهد لتسوية سياسية شاملة للحرب في اليمن، تحظى بقبول كافة أطراف الصراع أو على الأقل معظمها، وعُقدت لتحقيق ذلك لقاءات مباشرة وغير مباشرة، بين المملكة وجماعة الحوثيين، في مسقط والرياض وصنعاء.
ومنذُ نحو شهر اختفى الحديث عن جلسات حوار، أو مفاوضات، بين الطرفين، واستمرت لهجة العداء منخفضة إلى حد ما كحالها في الأشهر السابقة التي رافقت جلسات الحوار، وكان آخر لقاء علني بين الطرفين هو ذلك الذي جمع وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان بوفد عسكري وسياسي من جماعة الحوثي برئاسة محمد عبدالسلام، عضو المجلس السياسي للجماعة الحوثية، والناطق الرسمي باسمها، ليتوقف بعدها أي حديث عن لقاءات أو اجتماعات لبحث ملف السلام وهو الأمر الذي يعزيه مراقبون إلى التطورات التي فرضتها الحرب الجارية منذ السابع من أكتوبر الماضي بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية، بينما يرى آخرون بأن الأمر مفسرًا لحجم الصعوبات والعقوبات التي تحول دون الوصول لحلول مرضية للطرفين.
توطئة:
في مطلع إبريل من العام الجاري حطت طائرة عمانية على متنها السفير السعودي محمد آل جابر على رأس وفد سعودي وعماني في مطار صنعاء، وهناك التقى ممثل المملكة بقيادات الحوثيين وجهًا لوجه لأول مرة، إيذانًا ببدء مفاوضات سلام مباشرة بين الطرفين.
وفي منتصف سبتمبر/ أيلول 2023، قام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بزيارة مفاجئة إلى صلالة في سلطنة عمان، استجابة لدعوة السلطان هيثم، وهو ما شجّع السعوديين على استعادة الملف، وبالتالي سهّل عملية التنسيق السريع لاستقبال وفد حوثي في الرياض بغرض عقد محادثات.
كانت المرة الأولى منذ سنة 2015 التي يتم فيها عقد محادثات داخل الأراضي السعودية، ورغم إحيائها لبعض الآمال بإمكانية الوصول إلى سلام دائم خصوصًا بعد التقارب السعودي الإيراني، غير أن هناك الكثير من الملفات العالقة والمعقدة تحجم من أي إسراف في التفاؤل، لكنها تفضي في النهاية إلى استخلاص بعض الدروس حول هذا النزاع الطويل الأمد.
ظهور قادة عسكريين إلى جانب كبير مفاوضي الحركة محمد عبدالسلام خلال لقائهم بوزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان آل سعود قبل عودة هؤلاء إلى صنعاء، يوحي بأن ترتيبات أمنية وعسكرية بين السعودية والحوثيين ربما يجري بحثها بجدية، وصار هذا الملف في سلم أولويات التفاوض، إن لم يكن قد جرى التوصل إلى خطوطها الأساسية، وذلك لتأمين الحدود في جنوب السعودية، كهدف أمني أساسي للرياض، وكمقدمة تفضي إلى مرحلة تالية من العلاقة مع الحوثيين ضمن الكيان السياسي المأمول لليمن المجاور.
حرب غزة تبدل الأولويات وترجئ المفاوضات
في منطقة متوترة مليئة بالنزاعات، وبينما كانت أنظار العالم متجهة نحو أوكرانيا، بدت القضية اليمنية قابلة للتسوية، وهو ما تمّ التسويق له على نطاق واسع. لكن شيئًا فشيئًا اختفى اليمن من عناوين الأخبار ووسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى، لتختفي بطريقة شبه كلية مع اندلاع حرب غزة والكيان الإسرائيلي، ورغم ذلك، استمرت الجهود الدبلوماسية الدولية بقيادة المبعوث الخاص للأمم المتحدة هانس غروندبرغ، ولكنها جرت تحت الكثير من الرقابة ودون تحقيق نجاح يُذكر.
تحضر الحرب الدائرة في غزة لتتصدر أولويات اهتمام كل الأطراف والدول في المنطقة، خصوصًا مع تخوفات من امتداد الصراع ودخول أطراف أخرى في الحرب، مع تزايد جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، واتباعه سياسة الأرض المحروقة وأسلوب التهجير، في حربه على قطاع غزة، الأمر الذي يزيد من احتمالات توسع الصراع، وهو ما تخشاه كثير من دول المنطقة، غير أنه من غير المعروف ما إذا كان هذا الملف وحده ما يرجئ أو يعرقل مفاوضات السلام بين المملكة والحوثيين، أم أن هناك أمور أخرى فرضت نفسها وكانت حاضرة في تنافر الطرفين عند كل لقاء حوار.
وفي حين لا تخفي المملكة مفاوضاتها مع إسرائيل في الأشهر الماضية من أجل التوصل لاتفاق يفضي إلى التطبيع الكامل معها، وما هو معروف من أن هذه الحرب عرقلت أو على الأقل أبطأت التوصل إلى اتفاق، في ضل تأكيد سعودي متكرر على إدانة إسرائيل وما ترتكبه من فضائع بحق الفلسطينين، ليصبح حديث التطبيع مؤجلًا حاضرًا، مع استحالة حدوثه في مثل هكذا ضروف، فإن الحوثيين أيضًا وعلى ما يبدو بدلوا من أولوياتهم، مع سعيهم الدؤوب لإبراز أنفسهم كطرف جديد مهم وجزء أساسي من محور المقاومة والممانعة الذي تقوده إيران ولأجل ذلك يطلقون بين الحين والآخر مسيرات وصواريخ بعيدة المدى باتجاه إسرائيل، وركزوا جهودهم الإعلامية والعسكرية منذُ بدء حرب غزة، في هذا المنحى لتعزيز حضورهم، وتحسبًا لتوسع خارطة الصراع، واحتمال مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران والولايات المتحدة التي عززت من حضورها العسكري في المنطقة بشكل كبير.
وبقدر رغبة الجماعة الحوثية في إبراز نفسها ضمن هذا المحور يتولد هناك توجس لديها من أن حشر أنفسهم بشكل مباشر في الصراع الدائر في غزة، وإن كان غير ذي تأثير أو جدوى، قد يعني ربما انتهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وقد يدفع بالولايات المتحدة الأمريكية، بالدفع لإشعال الحرب من جديد وبدون لاءات أو خطوط حمراء بوجه الرياض هذه المرة.
كل هذه الأمور مجتمعة يرى مراقبون بأنها حالت دون الاستمرار في برنامج تفاوضي، في انتظار ما ستؤول إليه حرب غزة ونطاق الحد الذي ستتوقف عنده، لطالما تعجل الطرفين لتحقيقه، في ضل حديث عن سعي سعودي مفتوح الثمن للخروج من مأزق اليمن.
السلام.. لعبة الحوثي المفضلة للعب على أعصاب الرغبة السعودية
سعودياً، تبدو الرياض برأي كثيرين في عجلة من أمرها لإغلاق ملف الصراع اليمني من جانبها على الأقل والتفرغ لقضاياها الداخلية والخارجية الخاصة، وتحقيق التطلعات السياسية والاقتصادية، وهو ما يفسر رغبتها الجامحة، للخروج بأي ثمن من كابوس اليمن. هذه الرغبة برأي مراقبين جعلت الحوثيين أكثر تشددًا في طرح مطالب تعجيزية، والسعي للحصول على أكبر قدر من المكاسب، خصوصًا بعدما فشلت عاصفة الحزم من تحقيق أهدافها وإنهاء انقلاب الجماعة، وهو ما مكن الجماعة من تحسين شروط التفاوض – بعدما حققته من انتصارات ميدانية في السنوات الماضية على القوات الموالية لحزب الإصلاح وبسط سيطرتها على مناطق نفوذه- ليجعل ذلك الرغبة في السلام منطلقة من طرف الحوثيين مرتبطة بمضمونية النتائج المرهونة بالواقع على الأرض.
أما إيران التي تحاول الظهور بمظهر الملتزم بمبادئ اتفاقها مع السعودية في بكين فتبدو من وجهة نظر خبراء في شؤون المنطقة “غير جاهزة لرفع الغطاء عن الحوثيين” كأحد أهم أذرعها في الإقليم، وسوف “تستمر بدعمهم وإن من تحت الطاولة”، متذرعة بالقول “إنها لا تستطيع إرغام الحوثيين على القبول بما لا يرون أنه يصب في مصلحتهم”، بحسب رأي مراقبين..
شروط حوثية ترهق حس المملكة
يصر الحوثيون على الاستحواذ على النصيب الأكبر من “كعكة السلام” من خلال أموال التعويضات وجبر الضرر والمخصصات المالية المقترحة لعملية إعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب. وفيما تسعى المملكة لدفع الحوثيين إلى عمل إجراءات بناء الثقة على أرض الواقع، وأولها الانسحاب إلى مسافة عدة كيلومترات عن حدودها، يصر الحوثيون على بدء إجراءات بناء الثقة من رفع الحظر عن الموانئ والمطارات الواقعة ضمن نطاق سيطرته، وتكفل المملكة بدفع رواتب الموظفين المنقطعة في مناطق سيطرتهم منذ سنوات، كما يصرون على الحصول على ضمانة تتكفل فيها المملكة بإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
كل ذلك لا بد من وجهة نظر مراقبين أن يبدو بمثابة شروط تعجيزية أمام إمكانية التقدم في مسار المفاوضات السياسية المؤمل الذهاب إليها في المرحلة التالية.
الجنوب .. المعضلة التي يتحاشاها المتحاورون
لا يبدو الأمر أكثر تعقيدًا بين المتحاورين من المشهد جنوبًا، فالوضع هناك يبدو أكثر تعقيدًا من أن يتم التوصل فيه لأي اتفاق او تفاهمات بين المملكة والحوثيين مالم يكن العنصر الجنوبي حاضرًا فيها.
يحرص المجلس الانتقالي الجنوبي، على التأكيد عن رفضه أية حلول تتجاوز قضية الجنوب وممثليه، ويؤكد بأن أي تفاهمات بين المملكة أو أي طرف آخر مع الحوثيين لا يشارك المجلس كطرف فيها، لا تعنيه وليس ملزمًا بتنفيذه. من جهته المملكة العربية السعودية ومعها الإمارات العربية المتحدة يدركان مدى أهمية الجنوب، وكارثية المغامرة بمصيره، وإن غاب تصور فعلي لحل قضيته حتى الآن إلا أن المنطق برأي مراقبين لا يجعل من الصعوبة بمكان تمرير أي حلول بعيدة عن حل جذري للجنوب لا يتجاهل الحقائق التاريخية له، كما تدرك دول التحالف خطورة أن يبقى الجنوب بما يمثل من موقع استراتيجي ورقة ابتزاز وتهديد للإقليم والملاحة العالمية إذا ما أعاد الحوثيين سيطرتهم عليه. ويرى مراقبون بأن الخيار الأوحد أمام دول التحالف هو الحفاظ على الجنوب بعيدًا عن أي تأثير لسطوة الشمال وتعزيز قدرة القوات الجنوبية لمواجهة أي تحديات مستقبلية، وتمكين المجلس الانتقالي الجنوبي من بسط سيطرته على ما تبقى من مناطق في المحافظات الشرقية، مالم فإن سيناريوهات سقوط الشمال بيد الحوثيين سيكون أكثر كارثية على المملكة ودول التحالف العربي إذا ما تكرر في الجنوب، وسيكون أكثر خطورة. دوليًا، يكرر المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن (هانس غروندبرغ) بترحيبه بالتقارب الحوثي – السعودي، آخرها ترحيبه بـ “زيارة وفد يمني بقيادة حركة أنصار الله إلى الرياض” – حسب قوله – ، وعن امتنانه لجهود السعودية وعمان الرامية إلى التوصل إلى حلول لعدد من القضايا الخلافية تيسيرا لاستئناف عملية سياسية بين اليمنيين تحت رعاية الأمم المتحدة.
لا يملك غرودنبرغ سوى إظهار الدعم والتأييد للمساعي السعودية – العمانية حيث لا يجد الرجل بين يديه ما يفعله أكثر مما فعله سلفه (مارتن غريفيث)، أي النظر بترقب إلى المشهد عن قُرب وبُعد، والتركيز على معالجة الشق الإنساني في النزاع، وترك مفاوضات الحل السياسي النهائي المفترض لإنهاء مختلف أشكال معاناة اليمنيين إلى ما ستؤول إليه تطورات الأوضاع مستقبلاً في المنطقة والإقليم.