الصدارة سكاي /القاضي الدكتور صالح عبدالله المرفدي
تمهيد:
مما لا شك فيه، أن الاعلام بجميع أنواعه، أصبح من أهم وسائل تشكيل الرأي العام، وله التأثير المباشر في تحديد اتجاهات الشعوب، وتوجيه حركتهم على كل المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بل حتى في القضايا العدلية والقانونية ايضاً، فضلاً عن مساهمة الصحافيون وناشطي حقوق الإنسان الفعالة، في تكوين أحلام وتطلعات الأفراد والجماعات، وبالذات في قضايا المحاكم الجنائية.
وحريًا بنا التطرق لبعض القضايا، كان فيها للإعلام و وسائل التواصل الاجتماعي، دور في النشر والتأثير عليها، وهي قضايا عديدة نظرتها المحاكم اليمنية، إبتداءً بقضية مقتل “الاغبري” بصنعاء، ثم قضية مقتل ثلاث فتيات قُصّر من بنات “النعامي”، ومرورًا بقضية مقتل “الفتاة” التي رمت بنفسها من على باص صغير في م/ إب، وانتهاءً بقضية اغتصاب ومقتل القاصرة في مدينة التواهي بعدن… هذا النوع من القضايا المطروحة أمام المحاكم، دائماً ما تثير تساؤل يفرض نفسه، هو: هل كان للإعلام دورًا سلبي أم ايجابي، على القاضي الناظر لمثل هذة القضايا؟!.
ولقد وجدت من الأهمية، الاجابة على هذا التساؤل، ليس تعليقاً على الأحكام الصادرة من قبل قضاتنا الأفاضل، فهم مصدر ثقة وأمانة وعدالة، بل من خلال التطرق لدراسة موجزة، عن مدى تأثير الإعلام على اصدار الحكم القضائي الجنائي، في قضايا الرأي العام بالتحديد، وسأحاول تناول هذه الدراسة بإيجاز شديد في خمسة محاور: نتحدث في الأول عن مفهوم النشر ومدلول قضايا الرأي العام، و نتطرق في المحور الثاني لمبررات المذهب المؤيد للنشر، ونعرج في الثالث لمبررات المذهب المعارض للنشر، ونستعرض في المحور الرابع موقف القوانين الوضعية، ونخصص الخامس والأخير، لابداء رأينا وتوصياتنا لهذة الدراسة المتواضعة كلما أمكن ذلك.
المحور الاول: النشر وقضايا الرأي العام:
١- مفهوم النشر:
يعرف النشر بأنه: “هو عملية إنتاج ونشر المعلومات بأشكال مختلفة، ويشير المصطلح كذلك، إلى توزيع الأعمال المطبوعة، مثل الكتب، والصحف والمجلات..”. ومع ظهور التكنولوجيا الرقمية، ونظم المعلومات والإنترنت في نطاق النشر، توسعت لتشمل الموارد الإلكترونية، مثل النسخ الإلكترونية من الكتب، والدوريات، والمواقع الإلكترونية.ولا مناص من القول، بأن تناول قضايا المحاكم الجنائية في اليمن، أصبح بدون ضوابط وقيود، فدائماً ما نقرأ في الصحف المطبوعة والمواقع الالكترونية التابعة لها، تغطية خبرية إعلامية لقضايا منظورة أمام المحاكم، تدخل فيها عناصر الإثارة الإعلامية المطلوبة؛ لتحويلها لمادة مستهلكة إعلامياً، بل وصل الأمر الى المنتديات، وشبكات التواصل الاجتماعية، كالفيس والواتس والتويتر وما شابه ذلك…
وغني عن البيان، أن معظم الذين يتعرضون لتأثير تلك الوسائل، يكوّنون رأياً عاماً، سواء ضد مرتكب الجريمة أو بالتعاطف معه، ويصل الامر أحيانًا، للبحث عن شخص يدفع ثمن الجريمة، وتعمد بعض وسائل التواصل والصحافة احياناً، الى إثارة العواطف المضللة، وكل هذا ينال من استقلال القاضي في حكمه. وفي هذا الإطار، أجري استطلاع لشريحة “المحامون”، وكانت الحصيلة أن أكثر من نصفهم يعطون معلومات لوسائل الإعلام لصالح قضاياهم؛ بهدف أن يؤثر الإعلام على قضاياهم، عبر نشر معلومات خاطئة عنها.
٢- مدلول قضايا الرأي العام:
يقصد بالرأي العام: “شعور يسود جماعة معينة، يشعر أفرادها بأنه يربطهم معاً”.. ومن نافلة القول، أن التعذر بمصطلح قضايا الرأي العام، أصبح شماعة (أحيانًا) لاصدار أحكام غير عادلة، فالرأي العام دائمًا ما ينجرف في طرح رأيه على القضايا المعروضة للقضاء، على عاملي العاطفة والمشاعر دون غيرهما، بعكس نظر القاضي لملف القضية، الذي يجب أن يكون منجرفًا نحو العقل، المتمثل بتطبيق أحكام الشرع والقانون؛ وتحقيقا لقواعد العدالة الإجرائية والموضوعية، اذّ يباشر هذا الرأي العام، تأثيراً على القاضي، فيفقد كل أو بعض استقلاله حين يصدر حكمه، فيجد نفسه مُحرجاً في الحكم، بما يخالف ما هيأت له الصحف ومواقع التواصل للرأي العام، فيأتي هذا الحكم غير معبر عن كلمة الحق، وإنما لارضاء الرأي العام فقط إما بالحق أو بالباطل.
وتأسيسًا على ما تقدم، يثور التساؤل، حول استقلالية القضاء من جهة، وحرية الإعلام في نقل المعلومات للجمهور من جهة أخرى، فهل هما حقان متعارضان؟! وما هو المسموح والممنوع لرجال الإعلام من نقله عن اخبار المحاكمات؟ وعلى ماذا يرتكز المذهب المؤيد والمعارض لنشر قضايا المحاكم؟ وهذا ما سنجيب عليه في المحورين الثاني والثالث من هذه الدراسة.
المحور الثاني: المذهب المؤيد للنشر:
كما اسلفنا، انقسم الخلاف بين مذهبين: مذهب “مؤيد” لحرية الإعلام، بحيث يغلب على استقلال القضاء، ومذهب “معارض”، بحيث يؤيد مصلحة استقلال القضاء على حرية الإعلام، ولقد أورد أصحاب المذهب المؤيد، إلى أن حرية الإعلام مقدم على استقلال القضاء، ولهم عدة مبررات، أهمها:
١- إن وسائل الإعلام و وسائل التواصل الاجتماعي، لها دورها الهام في حفظ حق المواطن، في أن يعلم، ويكون قادراً على النفاذ الى الحقائق الكاملة المتعلقة بالعمل العام، وأن هذا الدور يمتد ليشمل القضاء، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الجنائية.
٢- من الواجب على الإعلاميين وناشطي حقوق الإنسان، بيان ما جاء في الأحكام القضائية، وإيضاح الإجراءات بما ينفي اللبس بشأنها، على النحو الذي يحدث حاليا في الشارع اليمني.
٣- من المتفق عليه، أن عمل الإعلاميين وناشطي حقوق الانسان يحتم عليهما، تزويد الرأي العام بكل ما يحدث في المجتمع والتعليق عليه، بما في ذلك طبيعة العمل القضائي؛ لإشباع حق المعرفة لدى المواطن؛ وتطبيقًا للاعتقاد السائد: “بأن العدل مرهون أيضاً بحرية الإعلام، وحماية حقوق الإنسان”؛ وذلك من خلال التغطية المباشرة، لبؤر الفساد في المجتمع.
٤- لا يمكن الاحتجاج بأن تصوير واذاعة الجلسات، والتعليق على الأحكام النهائية، يؤثر على الثقة في القضاء، فالأحكام بمجرد صدورها على نحو نهائي، تصبح ملكاً للقضاء العام، ويجوز، بل يجب على أساس ذلك، من أهل الرأي والخبرة والاختصاص، تناولها بالدراسة والتمحيص والتدقيق، لتدعيم الثقة في القضاء باحكامه، بحيث يستشعر الرأي العام، أن لا شيء يحاك في الظلام، وأن الحكم هو عنوان الحقيقة.
٥- إن ثقة الرأي العام في القضاء والقضاة، تتعزز بـ الشفافية والعلانية، وتتحصن بذيوع المعلومات وانتشارها، وتتأثر سلباً بالتكتم والسرية والحيطة، لذلك، كان لزاماً على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التناول الموضوعي والمسئول، كما يدور في قاعات المحاكم، والتعليق على الأحكام حال صدورها؛ ليس ليتمم عمل القضاء، ويحقق علانية الأحكام فحسب، وإنما تماشياً مع واقع جديد، لم تعدّ معه السرية مُمكنة.
المحور الثالث: المذهب المعارض للنشر:
أورد أصحاب هذا المذهب عدة مبررات، ترتكز على أن استقلال القضاء، مقدم على حرية الإعلام، وأهمها:
١- ينبغي ضمان عدم توجيه الرأي العام، تجاه الأحكام قبل أن تصدر، من خلال التغطيات غير المتوازنة؛ لأن الناس تكوّن وجهات نظر؛ حين تستمع الى دفاعات وأسانيد طرف دون الطرف الأخر، ومن ثم، يعتقدون أن الاحكام قد جانبها الصواب، وأن على الصحفيين وناشطي حقوق الإنسان، لكي تضمن الحيادية، أن تنقل كل المطروح في المحكمة، فلا تبرىء متهماً يفترض فيه الادانة، ولا تدين متهماً أخر يفترض فيه البراءة، قبل أن يصدر الحكم من المحكمة.
٢- إن تصوير وبث وتسجيل وقائع المحاكمة بالكاميرات التلفزيونية، يحوّل جلسة المحاكمة إلى “مسرحية”، يقوم بأدوار التمثيل فيها، الشهود والمحامون والمتهمون، وقد تؤثر على القاضي نفسه، وأن المنع لا يتعلق بحقوق المتهم والمجني عليه، بل بإجراءات سير العدالة، وبذلك، فإنها تغيير المحاكمة الى ما يشبه المسرح، على الرغم من أن هذا المكان، له قدسيته ويعدّ محراباً للعدالة.
٣- إن الكثير من الصحفيين، وناشطي حقوق الإنسان، لا يلتزمون بالأصول المهنية والاخلاقية، في تغطية ومتابعة القضايا المنظورة أمام القضاء، اذّ يسقط من اهتمامهم الحد الفاصل، بين الأبعاد المهنية التي ترتبط بدور القاضي، وبين الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للقضايا.
٤- إن بعض الإعلاميين أو الصحفيين، وناشطي حقوق الإنسان، يسعون إلى جذب أنظار أكبر عدد من جمهور القراء أو المشاهدين، ويعتمدون على معلوماتهم الشخصية، بخلاف القاضي الذي يمتنع عليه الحكم بناء على هذه المعلومات، بل يتعين عليه التقيد بما جاء في أوراق الدعوى، بعد اتاحة مناقشتها أمام الخصوم في مرافعة شفوية.
٥- إن تدخل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، في قضايا المحاكم الجنائية، دائماً ما تكون ضحيته العدالة والوعي الجمعي، خصوصاً عندما يشكك الإعلام في نزاهة القضاء بدون دليل! فإذا كانت إثارة العواطف واستخدام المانشتات اللافتة للنظر، هي أفضل وسيلة لجذب إهتمام القراء أو المشاهدين، فإن ذلك ليس هو الشأن في المحاكمات الجنائية، التي تعتمد على الأوراق المعروضة أمام القاضي وسلامة تطبيقة للقانون، دون التأثر بوسائل التواصل أو بالإعلام.
المحور الرابع: موقف القوانين الوضعية:
١- قواعد التقرير الإعلامي والحقوقي:
لقد بينت معظم التشريعات العربية “والتشريع اليمني”، موقفها من نشر وتناول قضايا المحاكم، من خلال النص على بعض القواعد والمبادئ والخطوط العامة، التي لا يجب الخروج عنها، عند تناول قضايا المحاكم، وبالأخص القضايا الجنائية، ويمكن أن نوجز هذة القواعد بالآتي:
أ- أن يكون التقرير الإعلامي أو الحقوقي حقيقي:
بحيث يكون مشتملاً على الوقائع والمرافعات التي تمت في المحاكمة، دون مناصرة رأي على آخر، فالواجب أن يتضمن الملخص الصحفي، نشراً لصحيفة ادعاء النيابة، وأدلتها على المتهم، وأقوال الشهود، وادلة الإثبات، ومرافعاتها، وبنفس القدر، يجب أن يتضمن التقرير الصحفي، مرافعات دفاع المتهم، وأدلته، وطلباته، وهل تم الاستجابة لها؟ مع ذكر المبررات في حال رفضها.
ب- يجب أن يكون المُلخص الصحفي أو الحقوقي وافيًا:
بمعنى أن ينقل الصحفي، المضمون الحقيقي للمناقشات والمرافعات التي تمت في الجلسة، وهذا مقصور على إجراءات المحاكمة، ولا يمتد الى التحقيقات الاولية والادارية؛ لأنها ليست علانية، وأن من ينشر ذلك، يتعرض للمسؤولية الجنائية، وعليه، فإن الملخص المنشور يجب أن يكون وافيًا ولو كان جزئيا، والعبرة في التوافق، بين ما ينشره الصحفي، وأحكام القانون التي تنظم كيفية ممارسة هذا الحق، بحيث تقرر المسؤولية الجنائية للصحفي، متى ما كان نشره للخبر يتنافى مع أحكام القانون؛ مما يسبب ضررا للاخرين أو للمصلحة العامة.
ج- يجب أن تتوافر حسن النية لدى الصحفي والحقوقي:
فإن نشر الملخص الصحفي، يجب أن يكون بحسن نية وليس بسوء نية، ويستدل على هذا، حينما يورد الصحفي عبارات لا وجود لها في المناقشات التي تمت بالجلسة، وازاء ذلك، يجب عليه عدم الإساءة للمتهم بأي حال من الأحوال، من خلال نشر الأسماء أو الصور المحكوم عليهم أو المتهمين الأحداث، حتى يتمكنوا من العودة الى المجتمع.
د- فيما يتعلق بالتقاط الصور الفوتوغرافية:
سواءً للمتهمين، أو هيئة المحكمة، أو الشهود، أو السماح للتلفزيون بتصوير مشاهد من الجلسة، أو إذاعة التسجيلات للمحاكمة، فإن مشكلة ذلك، تكمن فيما اذا كانت هذه الإجراءات تتفق مع مبدأ العلانية من عدمه، حيث تحظر القوانين، استعمال أي جهاز تسجيل، أو نقل ما يدور داخل قاعة المحاكمة، أو التقاط صور فوتوغرافية من داخل قاعة المحاكمة عند أفتتاح الجلسة، ومع ذلك، فإن لرئيس المحكمة، أن يسمح بالتقاط الصور، قبل بدء المناقشات، وتشترط بعض القوانين، موافقة الخصوم أو ممثليهم، أو النيابة العامة. وفي كل الأحوال، يجب أن لا تسبب هذه الاجهزة إزعاجًا للعدالة، وتعكير صفو الهدوء، أو أعطاء صفة سيئة أو دعاية للمجرمين.