تعاني البنوك في صنعاء عجزاً حاداً في السيولة، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية. يعتبر بنك اليمن الدولي في صنعاء نموذجًا لهذه الأزمة الأوسع التي تطال القطاع المصرفي بأكمله. ففي يوم السبت 7 سبتمبر 2024، أصدر بنك اليمن الدولي بيانًا رسميًا أكد فيه معاناته من أزمة سيولة حادة، وأنه بات غير قادر على تلبية طلبات السحب لعملائه، بعد احتشاد المواطنين أمام البنك والمطالبة بحقوقهم المالية، الأمر الذي كشف عن حجم الأزمة.
أحد موظفي بنك اليمن الدولي الذي فضل عدم ذكر اسمه أكد أن أزمة السيولة لم تقتصر على العملاء فقط، بل شملت الموظفين أيضًا. فقد تم تسريح العشرات من العاملين، في حين يحصل البقية على رواتبهم بعد فترات تأخير قد تمتد لأشهر من تأريخ الاستحقاق. هذه الظروف الصعبة دفعت العديد من الموظفين للبحث عن فرص عمل أخرى خارج القطاع المصرفي، ما يعكس حجم المأزق الذي يعيشه البنك في ظل انعدام السيولة.
بداية الأزمة المالية
لا يمكن فهم أزمة السيولة الحالية في اليمن بدون العودة إلى الوراء، وبالتحديد إلى عام 2014 حين سيطرت مليشيا الحوثي على صنعاء، بما في ذلك البنك المركزي اليمني. أدت هذه السيطرة إلى استحواذ الجماعة على أموال البنوك المودعة في البنك المركزي لاستخدامها لأغراضهم الخاصة. وكان لذلك تأثير مباشر على تجميد أرصدة العملاء، التي تعود إلى ما قبل 2016. منذ ذلك الحين، تعاني البنوك في صنعاء من نقص حاد في السيولة، نتيجة سوء الإدارة واستغلال الأموال لأهداف سياسية وعسكرية، وليس لدعم الاقتصاد أو تحسين الأوضاع المالية.
تقسيم الودائع وأزمة السيولة
تنقسم الودائع في البنوك اليمنية إلى نوعين رئيسيين: الودائع قبل عام 2016، التي تعتبر “غير نقدية” وفقًا لتصنيف السلطات الحوثية، لكونها استُثمرت في أذون الخزانة والأوراق المالية؛ والودائع بعد عام 2016، التي تعتبر “نقدية”. وقد تجمدت الودائع القديمة نتيجة لسياسات سلطات مليشيا الحوثي المتعلقة بالنظام المصرفي، في حين تعاني الودائع الجديدة من أزمة السيولة المستمرة، ما أدى إلى شلل في قدرة البنوك على الاستجابة لطلبات العملاء الذين يرغبون في سحب أموالهم. كما أن قرار الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا بنقل البنك المركزي إلى عدن في عام 2016 لم يكن كافيًا لحل المشكلة، بل على العكس، زاد من تعقيدها.
أسباب تفاقم أزمة البنوك
هناك عدة عوامل ساهمت في تفاقم أزمة البنوك في صنعاء، ومنها:
– إيقاف النفقات الحكومية: الحكومة الحوثية في صنعاء تعتمد بشكل أساسي على جباية الجمارك والضرائب والزكاة، لكنها لا تقوم بتوجيه هذه الأموال نحو تغطية نفقات الحكومة كدفع المرتبات وإعادة الأموال إلى الدورة الاقتصادية.
– فقدان الثقة في النظام المصرفي: تصاعدت مخاوف العملاء من استغلال الحوثيين لأموال البنوك، ما دفع العديد منهم إلى تحويل أموالهم إلى شركات الصرافة أو استثمارها في دول الجوار، مثل السعودية وعمان أو تحويلها إلى ذهب وعقارات. هذا النزوح الكبير للأموال ساهم في استنزاف السيولة المتاحة في السوق المحلية.
– قانون تحريم الفوائد: في مارس 2023، أصدرت جماعة الحوثيين قانونًا يمنع البنوك من دفع الفوائد على الودائع، تحت شعار “تحريم الربا”. هذا القرار أدى إلى تقليص حجم الودائع في البنوك، حيث لم يعد هناك أي حافز يدفع العملاء لإيداع أموالهم. ما زاد من تفاقم أزمة السيولة، وعزز فقدان الثقة بالبنوك.
لم تقتصر أزمة السيولة على الأفراد فقط، بل امتدت إلى المؤسسات والمنظمات الدولية التي تعتمد على البنوك اليمنية. تواجه هذه المؤسسات صعوبات كبيرة في صرف مستحقات الموظفين وتمويل المشاريع، نتيجة عدم قدرة البنوك على تلبية طلبات السحب رغم أن ودائعهم لدى البنك الدولي حديثة. وبالنسبة للعملاء، باتت حدود السحب الشهرية تتقلص بشكل مستمر، حتى أن بعضهم لم يعد بإمكانه سحب أكثر من 30,000 ريال يمني (حوالي 55 دولارًا) في الشهر الواحد. بل أن بعض البنوك أوقفت عملية السحب بشكل كامل، وهذا الوضع يجعل التعامل مع البنوك شبه مستحيل في ظل الأزمة الراهنة.
على الرغم من أن بنك اليمن الدولي يعاني من أزمة سيولة حادة، إلا أنه ليس البنك الوحيد الذي يواجه هذه المشكلة. تشمل الأزمة العديد من البنوك الأخرى، مثل بنك سبأ الإسلامي، وكاك بنك الإسلامي، والبنك اليمني للإنشاء والتعمير وبنوك أخرى. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذه البنوك مفلسة بشكل كامل، حيث يعتمد الإفلاس على عدم قدرة البنك على الوفاء بالتزاماته تجاه العملاء والدائنين بشكل كامل.
استقرار سعر الصرف.. وهم أم حقيقة؟
ورغم أزمة السيولة الحادة، يظل سعر الصرف في صنعاء مستقرًا نسبيًا. يعود ذلك إلى تدخل البنك المركزي الحوثي في تحديد السعر الرسمي للعملة وفرض قيود صارمة على التعاملات المالية. كما تساهم التحويلات المالية من المغتربين والمساعدات الدولية في دعم الاقتصاد المحلي وتوفير العملة الأجنبية. لكن هذا الاستقرار السطحي لا يعكس الوضع الحقيقي، حيث تتزايد أسعار السلع والخدمات باستمرار، ويقترب سعرها في صنعاء من الأسعار في عدن إذا ما تم تقييمها بالعملات الأجنبية.
التداعيات الإنسانية
لا يمكن إغفال التداعيات الإنسانية لأزمة السيولة المصرفية في اليمن. فقد أدى نقص السيولة إلى تعطيل الكثير من المنظمات الدولية التي كانت تقدم المساعدات للمحتاجين. وبما أن اليمن يعتمد على استيراد أكثر من 85% من احتياجاته الأساسية، فإن أي انقطاع في التدفقات المالية أو الواردات يفاقم من معاناة الشعب اليمني.
لبنان أخرى
إن حادثة التدافع والاحتشاد أمام بنك اليمن الدولي بصنعاء كما أظهرته مقاطع الفيديو المنتشرة يذكر باقتحام العملاء للبنوك في لبنان، التي شهدت تكرارها خلال الأزمة المصرفية، هي نتيجة مباشرة للاستياء الشعبي المتزايد بسبب القيود الصارمة التي فرضتها البنوك على سحب الأموال. هذه الحوادث بدأت في عام 2022 وتواصلت في 2023، حيث قام العديد من المودعين مدججين بالأسلحة باقتحام فروع بنوك مختلفة في محاولة لاسترجاع ودائعهم المحتجزة.
أزمة بنك اليمن الدولي ليست سوى نموذج لأزمة أوسع تشمل معظم البنوك في صنعاء. الأسباب متعددة ومعقدة، وتتراوح بين السيطرة الحوثية على النظام المصرفي وسوء الإدارة إلى فقدان الثقة العامة بالبنوك. ومع استمرار تدهور الأوضاع، يظل الحل بعيد المنال في ظل الظروف الراهنة، ما يضع القطاع المصرفي اليمني أمام تحديات مصيرية.
إن حل هذه الأزمة في اليمن يتطلب تغييرات جذرية في النظام المصرفي مثل توحيد العملة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي تحت إشراف مستقل بعيدًا عن التجاذبات السياسية لتحقيق الاستقرار المالي واستعادة الثقة في البنوك اليمنية وإعادة الأموال المنهوبة لأصحابها ليشعر المستثمرون بالأمان في بلادهم.