كنت قد تعرضت في الجزء السابق من هذا المنشور للمشهد السياسي في المنطقة العربية (التي صار اسمها الشرق الأوسط) وقلت أن اغتيال حسن نصر الله ومعه العشرات من قيادات حزبه، وقبلهم اغتيال اسماعيل هنية في طهران في عملية صار واضحاً أنه من صنع المخابرات الإسرائيلية، وما عدا ذلك من عمليات ومواجهات، ليس آخرها الحرب الإسرائيلية على لبنان بعد تدمير قطاع غزة وتصفية أكثر من أربعين ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال والعجزة على أيدي الجيش اٌسرائيلي، ثم هجمة الصواريخ الإيرانية على بعض المدن الإسرائيلية في فلسطين، كل هذا ليس سوى تمظهرٍ لجزء من صراع أشمل وأعمق وأكثر اتساعاً، . . . إن الصراع بين المشروعين التوسعيين الصهيوني والفارسي، وتعرضنا في المنشور إلى الخلفيات التاريخية والأبعاد السياسية للمشروعين، ولن أتوسع في الحديث عما تضمنه المنشور فيمكن لمن شاء أن يقرأ المنشور بعد أن نجحت في إعادة نشره إثر حذفه من قبل القائمين على منصة فيس بوك هذا التطبيق العالمي واسع الانتشار. وكان السؤال المؤجَّل هو: ماذا عن المشروع العربي؟ وهل هناك مشروع عربي؟ إن الحديث عن مشروع عربي هو حديث مشروع افتراضي، يقوم على معطيات وحقائق وأدوات قائمة لكنها غير مفعَّلة (Inactive)، بمعنى إن ممكنات قيام مشروع عربي شامل هي متوفرة، لكن تنقصها الإرادة السياسية الموحدة لتفعيلها وتحويلها من الممكن إلى الواقع. منذ أكثر من قرن ينظر الباحثون الأوروبيون والأمريكيون، والغربيون عموماً إلى المنطقة العربية على إنها منطقة تمتلك كل مقومات قيام حضارة جديدة مواكبة للعصر ومتطلباته وتطوراته المتسارعة، باعتبار المنطقة موضوع الحديث تمتلك من مقومات الحضارة الحديثة ما لا تمتلكه حضارات عديدة تعملقت في عقود قليلة من الزمن بعد أن كانت بلدانها في ذيل قائمة الدول المتطورة. وفي الحقيقة أن المنطقة العربية تمتلك تجربة التاريخ المشترك واللغة المشتركة، وغياب التفاوت الديني الحاد (قبل ظهور حروب المذاهب والطوائف المصطنعة والمدبرة والمسيرة من الخارج) وتمتلك الثروة البشرية والمساحة الجغرافية المشتركة، ومصادر الثروات المادية المتنوعة، فضلا عن التنوع المناخي والتضاريسي والموقع الاستراتيجي المميز والمنافذ البحرية والشواطئ الممتدة لآلاف الكيلو مترات، وغيرها من المقومات والعوامل التي كان يمكن أن تصنع من هذه المنطقة مركزاً حضارياً مهماً يساهم في رفد الحضارة العالمية، إن لم يتبوأ مركز قيادتها، لكن وبكل أسف لم تتم الاستفادة من كل هذه العوامل لقيام مشروع عربي مشترك يرفع من مكانة المنطقة ويضعها في الموقع الذي يلق بشعوبها بين شعوب وحضارات العالم. في إحدى المساحات على منصة (X ( كان أحد الزملاء من الإعلاميين العرب يتحدث عن “المشاريع الحضارية” في الدول العربية مشيداً بالتطورات العمرانية والمعيشية والخدمية التي تشهدها بعض البلدان العربية وميز بالذات بلدان الخليج العربية الشقيقة ذات العائدات النفطية المليارية. سيكون من غير المنطقي الاستهانة بما حققته البلدان العربية المستقرة وخصوصاً البلدان النفطية العربية الشقيقة من نهوض خدمي وعمراني وتعليمي وحتى تكنولوجي، على تفاوته، . . نعم لا يمكن الاستهانة بهذا، لكن المشروع الذي يتحدث عنه الاستراتيجيون والخبراء في التنمية والعلوم الاقتصادية والقانون الدولي هو أمر آخر لا بد أن تكون له صلة ما بما يحيط بالمنطقة من مشاريع لا تستهدف إلا التهام ما أمكن من المناطق العربية في ظل الغفلة والسبات العربي العميق الذي تعيشه المنطقة بدولها ومؤسساتها الإقليمية وعلى رأسها جامعة الدول العربية.. أعود وأكرر إن المشروعين الصهيوني والفارسي ليس لهما من هدف سوى مد النفوذ في المنطقة العربية، والتخطيط المستقبلي للاستحواذ على أكبر مساحة من هذه المنطقة بكل مقوماتها وقيمها المادية والاستراتيجية والتاريخية وشطآنها وحتى ثروتها البشرية، وهو ما يقتضي أن تعمل البلدان العربية (المحورية منها على الأقل) على بناء استراتيجية وقائية لحماية المنطقة من تداعيات بل ومن أهداف هذا الصراع ومترتباته المستقبلية إن لم يكن العمل على وضع أسس المشروع الحضاري العربي الشامل الذي كما قلنا يضع البلدان العربية وشعوبها في مركزها بين الأمم المتحضرة والرائدة. لقد استحوذت إيران، وفي إطار مشروعها الفارسي التوسعي، على العراق وسوريا ولبنان (إلى حدٍ ما) والجمهورية العربية اليمنية (السابقة) ولا يمكن توقع انسحابها أو تخليها عن مكاسبها الاستراتيجية التي حازت عليها في هذه البلدان، وما يزال طموحها أكبر من هذا من خلال تفعيل جيوبها الطائفية في أكثر من دولة عربية، ولن نتحدث عن توسعها بين أتباعها في البلدان الوسط-آسيوية حيثما توجد جماعات شيعية موالية لها. هناك اعتقاد سائد بين العديد من المثقفين والإعلاميين، بل وبين بعض المشاركين في صناعة القرار السياسي في بعض البلدان العربية مفاده أن الصراع الإيراني الإسرائيلي هو صراع الظالمين مع الظالمين، وأن الله سيهلك الظالمين بالظالمين، وهذا الاعتقاد ليس محدود الانتشار بل أن الكثير من المفكرين والأكاديميين يعلِّمونه لأتباعهم وتلاميذهم، وينتج من هذا الاعتقاد أن هذا الصراع لا يعنينا، وأن على العرب أن يتركوا الطرفين ليستنزفا بعضهما بعضا، ويتصور أصحاب هذا الاعتقاد أن بلدانهم، وبالأحرى البلدان العربية كلها في مأمن من هذا الصراع. للأسف الشديد يمكن الجزم بأن هذا الاعتقاد خاطئٌ من أساسه، لأن الظالمين الذين يتصارعون، يديرون صراعهم بإتقان، ولن يسمحوا له بالوصول إلى حد إفناء أحدهما للآخر، لكن الأهم من هذا أن المنطقة العربية هي موضوع الصراع بين هؤلاء (الظالمين) ، وأن وقود هذا الصراع هم من المواطنين العرب والموارد العربية، فضحايا القتل والتصفيات الجسدية لإيران وأذرعها في اليمن وسوريا والعراق ولبنان يتجاوز مئات الآلاف الأرواح (إن لم يكن قد تجاوز المليون بكثير) فضلاً عن أضعافهم من الجرحى والمصابين والمعوقين وتدمير المنشآت والموارد الاقتصادية في هذه البلدان، أما ضحايا العدوان الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها فلا يقل عن ضحايا المليشيات التابعة لنظام الملالي في طهران، وكل هذه المئات من الآلاف هي من أرواح ودماء العرب (المسلمين والمسيحيين) بينما لا يساوي عدد ضحايا هذا الصراع من الطرفين 0.5% من الضحايا العرب. ما هو المشروع العربي الذي نتحدث عنه؟ ذلك ما سنتوقف عنده في لقاء قادم.