في الصفحة ثلاثمئة وخمس وخمسين من كتابه “حرب”، الصادر حديثاً عن منشورات “سيمون وشوستر”، وقبل واحدة وعشرين صفحة على نهايته، يخبرنا الصحافي والكاتب الأميركي بوب وودورد أنّ وزارة الصحة في غزّة تقول إنّ “العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة قتلت ما يقرب من تسعة وثلاثين ألف شخص، وأجبرت معظم سكان القطاع البالغ عددهم مليونان وثلاثمئة ألف على النزوح”. وبعد حوالي مئة وستين صفحة على بدء الجزء المخصّص لفلسطين وحرب الإبادة عليها في كتابه، يتذكّر وودورد أن هناك ضحايا في غزّة للمرة الأُولى، بعد أن كرّر في كلّ فصل سابق الإشارة لـ”مجزرة حماس” و”الأطفال المحروقين” و”النساء المغتصبات” والألف ومئتي قتيل إسرائيلي.
ليس مستغرباً انحياز الصحافي الاستقصائي السابق في “واشنطن بوست” إلى الرواية الإسرائيلية وتجاهل السردية الفلسطينية، فكلّ مصادره أميركية وإسرائيلية، نسجها عبر عقود من ممارسة العمل الصحافي في أروقة السلطة في واشنطن. وودورد ومنذ كشف في عام 1972 التجسّس الداخلي من قبل الرئيس الأسبق ريتشاد نيسكون على معارضيه والمعروف باسم قضية “ووترغايت” هو وزميله في “واشنطن بوست” آنذاك كارل بيرنستين، فُتحت له أبواب مغلقة أمام أغلبية الصحافيين، وأصبح لديه اطّلاع على الكثير من الخبايا والأسرار.
ورغم أنّ الكاتب الثمانيني لا يُفصح عمّن أخبرَه تفاصيل بعض المحادثات التي نقع عليها في الكتاب، يكشف عن لقاءات أجراها مع عدد من السياسيّين الأميركيين والإسرائيليين (مثل مساعدين لنتنياهو أو جنرالات سابقين) والعاملين في واشنطن وتل أبيب، ويدورون في فلك صُنّاع القرار.
لا يُفصح عمّن أخبره بتفاصيل المحادثات الواردة بكتابه
يعرف القرّاء على الأرجح أبرز مضمون الكتاب، إذ ومنذ تسريب بعض الأجزاء لصحيفة واشنطن بوست، قبل صدوره ببضعة أسابيع، انتشرت على نطاق واسع قصة إرسال ترامب فحوصات كورونا لبوتين أثناء الجائحة واتفاقه معه على عدم البوح بذلك، وإشادته بالصين وبوتين بشكل متكرّر. كذلك هفوات بايدن أثناء لقاءاته بمتبرّعين لحزبه، وغضبه الكبير بعد صدور تقرير المدّعي العام عن حالته الصحية والذهنية، ومشاكل ابنه هانتر أمام القضاء.
يخصص الكاتب الجزء الأول (حوالي مئة وستين صفحة) للحرب في أوكرانيا فنقرأ عن كيف راقبت واشنطن الأوضاع على الحدود مع روسيا قبل أكثر من عام على الاجتياح، وتفاصيل التحضير للقاء بايدن وبوتين الشهير في عام 2021. وفي الجزء الثاني يتناول عام الحرب في غزّة، أو على الأقل حتى آب/ أغسطس الماضي، فينقل تفاصيل محادثات كثيرة جرت بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين ومحاولات الرئيس الأميركي ووزير خارجيته أنتوني بلينكن إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم الاجتياح البرّي وبهُدن متعدّدة سقطت، وبصفقة لم تحصل.
وينقل وودوورد في محطّات كثيرة رأي المسؤولين الأميركيين السيّئ عن نتنياهو وعدد من المحيطين به، إذ يعتقدون أنه “يكذب” وممثّل ومدّعٍ، ويقول في السرّ عكس ما يعلنه أمام كاميرات الإعلام، ولا يهمّه سوى أن يبقى في منصبه.
الكتاب كما كلّ ما ينشره وودوورد عبارة عن الكثير من الفصول، بعضها ليست أطول من نصف صفحة، فالرجل لا يتقن حرفة العناوين ولا العناوين الفرعية (وكل من يعمل في الصحافة المكتوبة يعرف كم يتطلب الأمر موهبة لكتابة العناوين الرئيسية والفرعية منها في أي مقال مهما كان بسيطاً) ويكتفي بالأرقام. يستعرض الرجل قدرته المذهلة على جعل الناس يتكلمون ويُفصحون له عن أسرار ومحادثات سرّية وحميمة.
مليء بجُمل لا تتناسب مع طبيعة الكتاب بل تصلح لعمل روائي
ويؤكّد الكتاب ما يعرفه من قرأ بعضاً من كتبه التي ناهزت العشرين: الرجل علاقاته قوية داخل كلّ الإدارات الأميركية المتعاقبة. وهذه العلاقات تسمح له بلقاءات وجلسات مع مسؤولين حاليّين وسابقين يخبرونه الكثير. فترامب مثلاً وافق بعد أن أصبح رئيساً على عدد من اللقاءات مع الصحافي المخضرم نتج عنها كتاب “أشرطة ترامب: مقابلات بوب وودورد العشرين مع الرئيس دونالد ترامب” (2022)، واستخدم جزءاً منها في كتابه “غضب” (2020). اللقاء الوحيد في “حرب” الذي لم نعرف عن تفاصيله جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، والسبب أن السيسي وفق الكتاب “طرد كلّ مساعديه ومساعدي بلينكن خارج الغرفة وطلب أن يجتمع به وحدهما”.
والكتاب مليء بالجمل التي لا مكان لها في كتاب ثرثرة استخباراتية. فيخبرنا مثلاً أنّ كامالا هاريس عند لقائها الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي قبل الحرب “نظرت بعمق في عينيه واقتربت منه وسألته: ماذا تريد مني أن أفعله؟ الصمت بينهما طال”. أو مثلاً هاريس نفسها بعد لقاء في ميونخ مع مسؤولين “ألقت بأنظارها من الشبّاك وحدّقت في الأفق وهي تفكّر كيف ستجد حلّاً للمشكلة”. أو مثلاً “وصل سوليفان إلى منزله. حدّق في وجه زوجته بعد يومه الطويل…”. وهي عبارات لا تتناسب مع جو الكتاب، ويبدو مكانها في رواية.
القرّاء العرب قد يكونون مهتمين بالاطّلاع على مضمون الكتاب، خصوصاً أنه في جزئه الثاني يضع جدولاً زمنياً لمفاوضات حرب الإبادة على غزّة، ويؤرشف اللقاءات وتواريخها والرحلات المَكّوكية التي قام بها بلينكن للمنطقة، مع تفاصيل كثيرة عن هذه اللقاءات وما دار فيها من أحاديث في السرّ، وكيف انتهت في العلن. لكن الاستفاضة بتفاصيل “روائية” والانتقال في بعض أجزاء الكتاب من أوكرانيا إلى غزّة والعودة إلى كييف وموسكو، تضعف الكتاب ومضمونه.