“لا ينبغي ان نبالغ في تقدير أثر التدخل الأمريكي في الأزمة اليمنية. فرغم أنّ هذه الضغوط قد تنجح في تغيير موازين القوى الداخلية لصالح القوى المناهضة للحوثيين، إلا أنها لن تنهي الصراع اليمني متعدد الطبقات.”
من المتوقع أن تحدث عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية، نظرا للاختلافات الجوهرية بين توجهات كلا من ترامب وبايدن، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع قضايا الشرق الأوسط وضمان الأمن القومي الأمريكي. ومع تصاعد التوترات في الشرق الاوسط، بات اليمن أكثر انخراطا في أزمات المنطقة، خاصة بعد اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، حيث أعلن الحوثيون بشكل صريح دعمهم للعمليات العسكرية ضد إسرائيل كجزء من محور المقاومة، مؤكدين مواصلة هجماتهم إلى أن توقف إسرائيل حربها في غزة. أدت مشاركة الحوثيين في هذا الصراع إلى زيادة تورط اليمن في تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، ورفع التوترات في ظل أوضاع محلية مضطربة أصلا. ورغم أن الولايات المتحدة أسست قوة مهام دولية تحت مسمى “عملية حارس الازدهار” لحماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر والمياه المحيطة، إلا أن هذه الجهود لم تنجح في ردع الحوثيين عن مواصلة عملياتهم.
جعل الأمريكيون العرب والمسلمون تحقيق السلام في الشرق الأوسط مطلبا أساسيا لدعمهم ترشح دونالد ترامب للرئاسة، حيث برر الإمام اليمني الأمريكي بلال الزهيري تأييد المسلمين لترامب بوعده بإنهاء الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا. ورغم أن ترامب أبدى اهتماما بهذه المطالب، يشكك البعض في أنها مجرد وعود فارغة خلال حملته الانتخابية تهدف إلى كسب دعم الناخبين العرب والمسلمين، دون أن تترجم إلى سياسات قابلة للتنفيذ بعد توليه الرئاسة. يبقى السؤال المهم لليمنيين والمهتمين بالشأن اليمني هو ما إذا كان صعود ترامب إلى الرئاسة مجددا سيساهم في إنهاء الحرب الأهلية المستمرة منذ عقد، أو يؤدي إلى إعادة التصعيد من خلال تبني إجراءات صارمة ضد الحوثيين لإضعاف سيطرتهم.
عقيدة ترامب
من أجل توقع كيف سيتعامل الرئيس المنتخب مع الأزمة اليمنية والحوثيين بشكل خاص، ينبغي النظر في عقيدة ترامب لفهم أولوياته في السياسة الخارجية. تتسم هذه العقيدة الترامبية بمبدئين رئيسيين: أمريكا أولا والنفعية التبادلية. يشير مبدأ “أمريكا أولاً” إلى إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الأمريكية على حساب الأجندات العالمية أو القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان. على عكس إدارة بايدن، من غير المرجح أن تشكل انتهاكات حقوق الإنسان أو الأوضاع الإنسانية المتردية في اليمن دافعا قويا لتحرك ترامب في الملف اليمني. ثانيا، ينظر ترامب إلى السياسة باعتبارها سلسلة من الصفقات النفعية التبادلية، مما يعني أن سياسته الخارجية ستستند إلى المكاسب الفورية والملموسة بدلا من الأيديولوجية أو الاستراتيجيات بعيدة المدى.
أيضا تقدم ولاية ترامب الأولى (2017-2021) بعض المؤشرات الأولية على كيفية تعامل إدارته الجديدة مع الحوثيين. قبل مغادرته البيت الأبيض، صنف ترامب الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو قرار ألغته إدارة بايدن فور تسلمها السلطة. أوقفت إدارة بايدن أيضا مبيعات الأسلحة الهجومية إلى السعودية، محملة إياها مسؤولية الأزمة الإنسانية في اليمن. وان كان هذه القرارات بررت سياسيا لكونها تهدف لتخفيف الأزمة الإنسانية في اليمن، إلا أنها ساهمت في إنهاء عزلة الحوثيين وتقوية موقفهم. وعلى الرغم من أنّ إدارة بايدن أعادت إدراج الحوثيين في قائمة الإرهاب، إلا أنه من المرجح أن يتبع ترامب نهجا أكثر عدوانية ضد الحوثيين، وفرض تدابير أكثر خشونة تهدف إلى خنق الجماعة سياسيا وماليا.
التأثيرات الخارجية على سياسة ترامب
ستلعب القوى الإقليمية دورا مهما في تشكيل سياسة ترامب تجاه اليمن ودفعها نحو تصعيد محتمل ضد الحوثيين. على مدار العقود الأخيرة، أثرت السعودية بشكل كبير على الموقف الأمريكي تجاه اليمن، مما جعلها جزءا من حسابات العلاقات الأمريكية-السعودية بدلا من أن تكون مجالا مستقلا للسياسة الخارجية الامريكية. نظرا لهذا التأثير، نجحت السعودية في الحصول على دعم الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما لحربها في اليمن عام 2015. استمرت إدارة ترامب الأولى أيضا في دعم عمليات التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين طوال فترة ولايته الأولى، مما شجع السعوديين على السعي لتحقيق مكاسب عبر حسم عسكري بدلا من الوصول الى حل سياسي مع الحوثيين. ونظرا لاجتماع عدة عوامل منها الأداء الضعيف للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، وفقدان الدعم الأمريكي خلال إدارة بايدن، بالإضافة الى ضغوط منظمات حقوق الإنسان الدولية بشأن الوضع الإنساني الكارثي في اليمن، اضطرت السعودية أخيرا إلى تغيير موقفها وتقبل الحوثيين كسلطة أمر واقع في المناطق التي يسيطرون عليها. لكن مع عودة ترامب إلى السلطة، لا يوجد ما يبرر استمرار السعودية في سياسة التهدئة مع جماعة الحوثي، خاصة أن المملكة لا تثق بالجماعة وتنفر من أيديولوجيتها الثورية.
بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، ورغم انسحابها الرسمي من اليمن في عام 2019، لا تزال تلعب دورا هاما في النزاع اليمني، فقد استمرت في معارضتها لتمكين الحوثيين، وقادت عبر سفارتها في واشنطن جهودا دبلوماسية حثيثة لإعادة تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية بعد أن ألغت إدارة بايدن هذا التصنيف في فبراير 2021. أيضا، تواصل الإمارات دعم قوات محلية في اليمن، مثل قوات المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح، لمنع الحوثيين من التوسع والسيطرة على المزيد من الأراضي اليمنية. تعكس هذا التحركات المستمرة استراتيجية الإمارات الأوسع في مواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وحماية طرق الملاحة البحرية، ومواجهة النفوذ الإيراني في اليمن، والتي تتفق بشكل كبير مع رؤية ترامب للمنطقة.
إلى جانب السعودية والإمارات، برزت إسرائيل مؤخرا كطرف خارجي ثالث قلق من تمدد نفوذ الحوثيين في اليمن والمنطقة، مع الاهتمام الواضح بإضعاف الجماعة وتقليص تأثيرها. في أعقاب حرب غزة، شن الحوثيون هجمات متعددة بصواريخ وطائرات مسيرة استهدفت مدنا إسرائيلية بالإضافة إلى مصالحها التجارية في المياه الدولية. ردا على هذه الهجمات، نفذت إسرائيل غارات جوية استهدفت الحديدة ومواقع أخرى خاضعة لسيطرة الحوثيين، في أول تدخل عسكري معلن لها في اليمن. العلاقات الوثيقة التي تربط ترامب ودائرته المقربة بإسرائيل تعني أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستقدم على الأرجح دعما غير محدود لمزيد من العمليات الإسرائيلية ضد الحوثيين، خاصة وأنّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجهتا أيضا ضربات انتقامية ضد أهداف حوثية بهدف إضعاف قدرات الجماعة على مهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر.
موقف أكثر صرامة تجاه الحوثيين
بالنظر إلى موقف ترامب المتشدد تجاه الحوثيين وعلاقاته الوثيقة مع ثلاثة أطراف إقليمية رئيسية معادية للجماعة (السعودية، الإمارات، إسرائيل)، من المرجّح أن نشهد تصعيد أكبر يستهدف إيران وحلفاءها في المنطقة، كجزء من سياسة “الضغط الأقصى” التي يتبناها ترامب. في اليمن، في الغالب سيشمل ذلك توسيع العمليات العسكرية تحت إطار “عملية حارس الازدهار” وتشديد العقوبات على الحركة الحوثية وقطاعاتها الحيوية. منذ فترة رئاسة ترامب الأولى، شهد الحوثيون تطورا كبيرا في قدراتهم العسكرية، بما في ذلك الوصول إلى أنظمة صواريخ متقدمة وطائرات مسيرة وألغام بحرية ذات قدرة فعالة في تهديد التجارة الدولية والأمن الإقليمي. للحد من هذا التهديد، من المتوقع أن يزيد ترامب من دعم القوى المحلية، بما في ذلك القوات الجنوبية، لتعزيز قدرتها على مواجهة التوغلات الحوثية المتزايدة.
سيلقى النهج الأمريكي الصارم تجاه الحوثيين ترحيبا واسعا من قبل القوى اليمنية المعارضة، خاصة في ظل محاولات منح الشرعية الدولية لسلطة الحوثيين في شمال اليمن، بما في ذلك التقارب الأخير من السعودية مع الجماعة وتبنيها لخارطة طريق السلام المثيرة للجدل. لهذا فان هذه القوى المناهضة والتي تضم الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، المجلس الانتقالي الجنوبي، المقاومة الوطنية، وحزب الإصلاح، قد تجد فرصا جديدة لتعزيز موقفهم عند عودة ترامب إلى البيت الأبيض. استعدادا للتغيرات المحتملة في السياسة الأمريكية، عقد رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي سلسلة اجتماعات مع عدد من السفراء لتعزيز الدعم الدولي لمواجهة التهديدات الحوثية. أيضا، على الرغم التنافس التاريخي بين الحركة الجنوبية وتنظيم الاخوان المسلمين، التقى الزبيدي مع قادة حزب الاصلاح، مما يشير إلى توجه جديد داخل التحالف المناهض للحوثيين لتجاوز خلافاتهم واستغلال التغير في الإدارة الأمريكية للحصول على دعم دولي أوسع.
وعلى الرغم من أن استئناف معركة الحديدة لا يزال احتمالا واردا، خاصة مع تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية من قبل عدة دول غربية، إلا أن الأطراف الفاعلة في الازمة اليمنية، بما في ذلك الولايات المتحدة والقوى الإقليمية، لا ترغب بإشعال حرب شاملة ضد الحوثيين. سيواجه الضغط العسكري من الولايات المتحدة بردود حوثية تستهدف الداخل السعودي والإماراتي، خاصة وأن الحوثيين يعتبرون هذه الدول أدوات للإمبريالية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. لهذا السبب، سيقتصر التصعيد المرتقب على عمليات محدودة تضعف من قدرات الحوثيين العسكرية وترغمهم على العودة الى طاولة المفاوضات. حتى الآن، يشعر الحوثيون بتفوقهم العسكري نتيجة ضعف أداء الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، إضافة الى رغبة داعميها الإقليميين في إنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق سريع معهم. واستشعارا لهشاشة خصومهم، فإن الحوثيون غير مستعدين للسلام بعد، حيث يعتقدون أنهم قادرون على انتزاع المزيد من التنازلات من خلال استمرار الحرب.
أفكار ختامية
رغم أن الولايات المتحدة لا تسعى لتولي دور قيادي في الأزمة اليمنية، فإن عودة الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة توفر بيئة مشابهة لما كانت عليه الاوضاع في بداية الحرب. من المتوقع أن يتم ترجمة الموقف الأمريكي الصارم تجاه إيران ووكلائها الإقليميين إلى جهود مكثفة لإضعاف القوة السياسية والعسكرية للحوثيين. ومع ذلك، من غير المرجح أن يقوم ترامب في نشر قوات أمريكية لمواجهة الحوثيين في اليمن. بدلا من ذلك، سيعتمد على الحلفاء الإقليميين والقوات اليمنية لتولي زمام المبادرة في تنفيذ استراتيجيات تهدف إلى مواجهة الحوثيين وتقليص الدور الإيراني في البلاد. يعكس هذا النهج سياسة ترامب الأوسع لتقليل الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في الخارج مع الحفاظ على النفوذ الأمريكي من خلال شراكات مبنية على المصالح المتبادلة.
أخيرا، لا ينبغي ان نبالغ في تقدير أثر التدخل الأمريكي في الأزمة اليمنية. فرغم أنّ هذه الضغوط قد تنجح في تغيير موازين القوى الداخلية لصالح القوى المناهضة للحوثيين، إلا أنها لن تنهي الصراع اليمني متعدد الطبقات. فجذور الحرب الأهلية الحالية تعود إلى عقود من المظالم وتاريخ طويل من التلاعب السياسي والفساد وسوء الإدارة، خصوصا في الجنوب. ومن دون معالجة هذه القضايا والسعي نحو تسوية سياسية شاملة، ستؤدي الضغوط الخارجية، بما في ذلك التدخلات الأمريكية، الى تغييرات مؤقتة في موازين القوى، تاركة الأسباب الجذرية للصراع دون حل، مما يقوض فرص تحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل.
علاء محسن
باحث مقيم لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات. باحث دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة يوتا ومتخصص في سياسات الشرق الأوسط