“يمكن القول إنّ ما حدث في الأراضي السورية من الإطاحة بالرئيس الأسد، جمع بين عاملي “الفرصة” و”التحدي”، لكن التحديات والتهديدات المرتبطة بالمسار الجديد تسبق الفرص، على اعتبار أن هذا المتغير سوف يدفع باتجاه العديد من التداعيات السلبية..”
في أعقاب تطورات ميدانية كبيرة شهدتها الجغرافيا السورية عقب إطلاق الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، في 27 نوفمبر 2024، هجماتها العسكرية، وصلت نتائج ومخرجات هذه العملية إلى ذروتها يوم أمس 8 ديسمبر 2024، عندما اقتحمت الفصائل المسلحة العاصمة دمشق، واستطاعت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد. وخلال ساعات ظهر أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام من الجامع الأموي في دمشق، معلنا بمصطلحات دينية، الانتصار “وبداية كتابة تاريخ جديد للمنطقة”. والحاصل أن هذه المتغيرات لن تساهم فقط في إحداث زلزال على مستوى أوضاع الداخل السوري، بل إنها ستدفع باتجاه تغيرات مهمة ونوعية على مستوى شكل منطقة الشرق الأوسط.
أولاً- التداعيات على مستوى الداخل السوري
فور دخول الفصائل المسلحة إلى دمشق، بدأت الساحة السورية تشهد متغيرات دراماتيكية وتاريخية. وكان اللافت هو عدم وجود أي مقاومة تُذكر من قبل الجيش الوطني السوري. في الأثناء بدأت الأنباء تتواتر عن هروب الرئيس السابق بشار الأسد، لتُعلن روسيا بعد ذلك وصوله موسكو، وأنها وفرت لجوءاً له ولأسرته لأسباب إنسانية. وبشكل عام يُمكن القول إن انسحاب الرئيس السوري بشار الأسد من المشهد في سوريا، وطي هذه الصفحة من تاريخ سوريا، سوف يدفع باتجاه مجموعة من التداعيات الرئيسية على المشهد السوري:
1- السعي للحفاظ على مؤسسات الدولة: اتفق الخطاب السياسي المعلن للحكومة السورية بقيادة محمد غازي الجلالي، وكذا الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام على أولوية حماية المؤسسات الخاصة بالدولة السورية وعدم التعرض لها، وبناءً عليه تم الاتفاق على تكليف “الجلالي” تسيير الأمور والإشراف على نقل الملفات الحكومية للسلطات الجديدة فور تشكيلها، ويبدو أن حسابات الفصائل المسلحة في هذا الأمر تستند إلى مجموعة من الاعتبارات، أولها الحيلولة دون سيناريو الانهيار الكامل للدولة السورية، وثانيها السعي لبناء قاعدة شعبية داخلية بما يوفر شئ من الشرعية للحقبة الجديدة، وثالثها سعي هذه الفصائل لنفي صفة الإرهاب عن نفسها بكل السبل، خصوصا إذا ما أخذنا بالاعتبار التاريخ المثير للجدل الذي يربط هذه الفصائل وقادتها خصوصا، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، الذي بات رمز هذا التحول بعد أن كان مطلوبا بتهم الإرهاب للمخابرات الأمريكية.
2- تلاشي نفوذ حزب البعث: أحد السمات الرئيسية التي تطبع بها نظام الرئيس بشار الأسد، تمثلت في تضخيم أدوار حزب البعث الحاكم وجعله ممسكاً بزمام كافة الملفات الخاصة بالدولة السورية، حتى أن الحزب كان يُشرف على عمل الحكومة وليس العكس. وبطبيعة الحال سوف تسعى الفصائل المسلحة إلى توظيف المعادلات الميدانية والانتصار الذي حققته وتحويله إلى مكاسب سياسية. وفي إطار التعامل مع حالة حزب البعث قد تذهب الفصائل إلى حل الحزب، وبطبيعة الحال الإعلان عن انتخابات نيابية جديدة يغيب فيها “البعث” عن المشهد، على اعتبار أن “البعث” يمتلك الأغلبية البرلمانية في سوريا.
3- التوجه نحو “مأسسة” الفصائل المسلحة: كان لافتاً في الحوار الذي أجراه أبو محمد الجولاني مع شبكة “سي إن إن” الأمريكية هو إشارته إلى احتمالية تفكيك الفصائل المسلحة وقولبتها في إطار المؤسسات السورية، حيث قال: “هيئة تحرير الشام مجرد جزء من هذا الحوار، وقد تتفكك في أي وقت، إنها ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لأداء مهمة: مواجهة هذا النظام”. وهذا مؤشر يأتي في إطار مساعي هذه الفصائل الانسحاب من زاوية التقولب في إطار الميليشيات والمجموعات المسلحة، وترجمة الانتصار الذي حققته سياسياً عبر التواجد في مواضع صنع القرار بالدولة السورية.
4- خارطة الطريق المحتملة لسوريا: حتى اللحظة لم يُعلن أي طرف في الداخل السوري عن خطط وخارطة طريق خاصة بمرحلة ما بعد الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، لكن هذا لا ينفي وجود بعض الخطط المطروحة. ففي اجتماع الدوحة الأخير بين كلاً من تركيا وروسيا وإيران، اتفقت الدول الثلاثة على مسار تضمن بعض البنود ومنها: بدء تنفيذ القرار الأممي 2254، وتشكيل حكومة وحدة وطنية خلال شهر، أن يبقى بشار الأسد رئيساً لمدة 6 – 9 أشهر ويعطي جزءاً كبيراً من صلاحياته لرئيس وزراء مستقل متفق عليه، كتابة دستور جديد للبلاد من قبل لجنة جديدة ثلثها يُعين من الأمم المتحدة وثلث لدمشق وثلث للائتلاف السوري، ومراقبة روسيا وإيران وتركيا لوقف إطلاق النار، وسحب جميع القوات إلى قواعدها..، وانسحاب جميع القوات الأجنبية من البلاد بحلول نهاية 2025، وأن تدعو الحكومة الجديدة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية بأسماء جديدة بعد 6-9 أشهر.
وباستثناء البند الخاص بوجود الرئيس السابق بشار الأسد في إطار مرحلة انتقالية، على اعتبار أن هذا البند انتفى برحيل “الأسد” عن الأراضي السورية، يبدو أن هذه الخارطة سوف تكون محل اتفاق على مستوى الداخل السوري (على اعتبار الضغوط التركية التي ستُمارس على هذه الفصائل للقبول بخارطة الطريق)، فضلاً عن كونها محل اتفاق من الدول الرئيسية المنخرطة في الملف السوري.
ثانياً- التداعيات على المستوى الإقليمي والدولي
يُمكن القول إن الإطاحة ببشار الأسد من المشهد السوري سوف يكون له مجموعة واسعة من التداعيات والآثار على المستوى الخارجي وبالنسبة للدول الفاعلة في الملف السوري، ويمكن رصد أبرز هذه التداعيات وذلك على النحو التالي:
1- تراجع النفوذ الإيراني في سوريا: عملياً سوف تؤدي الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد إلى تراجع وطأة النفوذ الإيراني في سوريا، ليس فقط لاعتبارات التحالف الاستراتيجي الذي كان سائداً بين الجانبين وأن إيران خسرت بذلك حليفاً مهماً، ولكن لجملة من السياقات والاعتبارات الأخرى. أولا أن إسرائيل وفي ثنايا الحرب الجارية في الإقليم كبدت إيران خسائر كبيرة جداً على مستوى تواجدها في سوريا. وثانيا أنه وخلال المعارك الجارية خرجت العديد من المجموعات الإيرانية من الأراضي السورية. وثالثا أن الفصائل المسلحة السورية تحمل مشاعر ومواقف شديدة الحدة تجاه إيران الأمر الذي سينعكس على أي نشاط أو تواجد إيراني في سوريا خلال الفترات المقبلة.
2- أولويات جديدة بالنسبة لواشنطن: على الرغم من عدم القدرة على الجزم بطبيعة وكيفية تعامل الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مع الموقف الجديد في سوريا والوضع الراهن، إلا أن الولايات المتحدة بشكل عام كدولة وكمؤسسات سوف تركز على حماية مجموعة من المصالح والأهداف الاستراتيجية الخاصة بها، وعلى رأسها تأمين الحليف الاستراتيجي إسرائيل من أي تهديدات قادمة من الجبهة السورية. إضافة إلى ضمان عدم إعادة هيكلة النفوذ والوجود الإيراني في سوريا، والحفاظ على مصالح الحلفاء الأكراد، وضمان عدم توظيف تنظيم داعش للمتغيرات الراهنة من أجل العودة للمشهد. وفي هذا السياق ورغم تصنيف الولايات المتحدة لهيئة تحرير الشام وزعيمها ككيانات إرهابية، قد تتجه واشنطن إلى التعامل مع الهيئة باعتبارها أمراً واقعاً عبر قنوات اتصال غير مباشرة، على غرار ما كان يحدث في حالة حركة طالبان الأفغانية.
3- تركيز روسي على تأمين المصالح الاستراتيجية: خسرت روسيا بعد الإطاحة بـ “الأسد” حليفاً استراتيجياً مهماً، لكن الموقف الروسي نفسه تخلى عن توجيه أي دعم أو إسناد للنظام الروسي في ثنايا المعارك الأخيرة. ويبدو أن روسيا وجدت أن انخراطها في دعم النظام السوري بالتزامن مع حالة الاستنزاف التي تعيشها على وقع الحرب الأوكرانية طويلة المدى، سوف يكون خيار شديد التكلفة. وفي المقابل تبنّى الكرملين مقاربة تقوم على التماهي مع الأمر الواقع الجديد، مع بناء تفاهمات تضمن الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لروسيا في سوريا وخصوصاً في مناطق الساحل تمكنها من الحفاظ على موطئ قدم ناحية البحر المتوسط.
4- تركيا الرابح الأكبر من التطورات: بعيداً عن الموقف التركي الرسمي والذي تماهى في جزء منه مع تحركات الفصائل المسلحة السورية، يبدو أن تركيا هي الرابح الأكبر من المتغيرات التي شهدتها الساحة السورية وذلك على أكثر من مستوى. أولها أن تركيا بذلك أبعدت الرئيس بشار الأسد عن المشهد وشروطه التعجيزية للتطبيع الثنائي خصوصاً ما يتعلق بفكرة سحب القوات التركية من سوريا. وثانيها أن كافة الفصائل المسلحة المتحالفة مع هيئة تحرير الشام تدور في فلك الرعاية والدعم التركي، وهو ما سيتم ترجمته في صيغة مكاسب استراتيجية بالنسبة لتركيا. وثالثها أن هذه المتغيرات سوف تساهم في إضعاف العدو اللدود بالنسبة لتركيا في سوريا ممثلاً في الجبهة الكردية وخصوصاً قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
5- الحسابات الإسرائيلية في المشهد السوري: مثلت المتغيرات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية فرصة تاريخية بالنسبة لإسرائيل، وقد تجلى ذلك في أكثر من مؤشر، أولها تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ “انهيار اتفاق فض الاشتباك مع سوريا بشأن الجولان”، مستغلاً في ذلك انسحاب الجيش السوري من كافة مناطق انتشاره. وثانيها استيلاء الجيش الإسرائيلي على الجانب السوري من جبل الشيخ بهضبة الجولان، وفرض حظر تجول على سكان خمس بلدات تقع ضمن المنطقة العازلة في جنوب سوريا، المحاذية للجزء الذي تسيطر عليه إسرائيل من هضبة الجولان منذ عام 1967. وثالثها إعلان رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي، أن “سوريا أصبحت جبهة قتال بالنسبة لإسرائيل”، وهي المؤشرات التي عكست أن إسرائيل تسعى إلى توظيف المتغيرات الراهنة في سوريا من أجل توسيع نفوذها وحضورها العسكري على الأراضي السورية. ويبدو أن إسرائيل وبالتعاون مع الولايات المتحدة سوف تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، خصوصاً فيما يتعلق بالمستوى الأمني. إذ ستركز إسرائيل على الحيلولة دون أي تواجد إيراني فاعل على الأراضي السورية، كما أنها ستعمل على الحيلولة دون وصول الأسلحة الكيميائية والثقيلة إلى الفصائل المسلحة.
6- عودة سوريا للحاضنة العربية: رغم أن المتغيرات الأخيرة التي شهدتها الدولة السورية تطرح تحديات كبيرة بالنسبة للمحيط العربي على اعتبار أنها تدفع في أحد أبعادها باتجاه حالة من السيولة الأمنية، وتنامي نشاط تنظيم داعش، بما يمثل تهديداً لكافة دول المنطقة، إلا أنها تمثل في الوقت ذاته فرصة لبناء مقاربات جديدة تضمن إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية. ويُمكن أن تساهم الدول العربية بشكل فعال في إطار خارطة الطريق السورية التي سيتم الاتفاق عليها، جنباً إلى جنب مع تقديم مستويات من الدعم الاقتصادي والمساهمة في إعادة الإعمار، والاتفاق على آليات واضحة بخصوص مسألة اللاجئين.
في الختام، يمكن القول إنّ ما حدث في الأراضي السورية من الإطاحة بالرئيس الأسد، جمع بين عاملي “الفرصة” و”التحدي”، لكن التحديات والتهديدات المرتبطة بالمسار الجديد تسبق الفرص، على اعتبار أن هذا المتغير سوف يدفع باتجاه العديد من التداعيات السلبية خصوصاً الأمنية والتي قد لا تقتصر في مداها على حدود الداخل السوري، وإنما قد تمتد لتشمل بعض دول المنطقة خصوصاً الجوار السوري.
محمد فوزي
خبير مصري متخصص في شؤون الأمن الإقليمي، باحث غير مقيم في مركز سوث24 للأخبار والدراسات