في خضم الدعوات المتكررة في حضرموت للخصوصية والانفصال عن مشروع الدولة الجنوبية، يبرز سؤال جوهري لا يمكن تجاهله: هل فعلاً مصلحة حضرموت تكمن في المضي بمشروع خاص ومنفصل، أم أن البقاء ضمن كيان جنوبي موحد وعادل يمثل الخيار الأذكى والأكثر استقرارًا؟ للإجابة على هذا السؤال، من المفيد أن نُسقط تجارب عالمية مشابهة على واقعنا المحلي، ونقارنها بعمق بعيدًا عن الشعارات والانفعالات.
تجارب كثيرة حول العالم تؤكد أن القوة الاقتصادية أو الخصوصية الثقافية لا تعني بالضرورة أن الانفصال هو الخيار الأمثل. في الولايات المتحدة، تحتل ولاية كاليفورنيا المرتبة الخامسة عالميًا من حيث الناتج المحلي، وتفوق اقتصادات دول بأكملها، ومع ذلك، لم تطالب جديًا بالاستقلال، لأنها تدرك تمامًا أهمية البقاء ضمن منظومة أوسع تضمن لها الاستقرار النقدي والأمني والتكامل التجاري. وفي كندا، سعت كيبك للاستقلال مرتين في استفتاءات شعبية، لكنها فشلت، لأن غالبية السكان شعروا أن مخاطر الانفصال أكبر من فوائده، سواء من ناحية الاقتصاد أو التأثير السياسي. وفي ألمانيا، تُعد بافاريا واحدة من أكثر الولايات تقدمًا صناعيًا وتاريخيًا، لكنها ظلت فاعلًا أساسيًا داخل الاتحاد الفيدرالي الألماني، بدلًا من الانعزال. أما أبوظبي، رغم أنها أغنى إمارة في الإمارات العربية المتحدة، فهي لم تنسحب لتبني مشروعًا خاصًا بها، بل كانت ركيزة أساسية في بناء الاتحاد واستقراره.
حضرموت، التي تتمتع بثقل جغرافي واستراتيجي وموارد اقتصادية كبيرة، ليست استثناء من هذه القاعدة. المطالبة بدور أكبر وتمثيل عادل هو حق مشروع لا يُجادل فيه أحد، لكن تحويل هذا الحق إلى مشروع انعزالي يفتقد إلى الضمانات هو مجازفة قد تعود بنتائج عكسية. فالبقاء ضمن كيان جنوبي موحد، قائم على أسس اتحادية واضحة تضمن توزيع السلطة والثروة بعدالة، لا يعني التنازل عن الخصوصية، بل هو الطريق الأذكى للحفاظ عليها وتعزيزها داخل منظومة متوازنة.
الحقيقة أن مشروع الدولة الجنوبية لا يُقصي حضرموت، بل يحتاجها، ويعتمد على ثقلها ليتحقق. ومقابل ذلك، فإن حضرموت بحاجة إلى مظلة وطنية تحميها من محاولات الاحتواء والتدخلات، وتمنحها وزناً إقليميًا أكبر مما قد تحققه بمفردها في ظل توازنات دولية معقدة. كما أن التكتل الجنوبي سيمنحها سوقًا داخليًا واسعًا، ومجالًا سياسيًا رحبًا يمكن من خلاله توسيع النفوذ، بدلًا من الانغلاق على مشروع محلي لا تتوفر له مقومات الدولة المستقلة، لا اقتصاديًا ولا دفاعيًا ولا دبلوماسيًا.
إن الرغبة في التميز لا تعني الانفصال، بل يمكن أن تُترجم إلى ريادة داخل كيان جامع. كما أن المشاركة في صياغة الدولة الجنوبية القادمة لا تعني الذوبان، بل صناعة دور محوري يُبقي حضرموت في موقع القلب لا على الهامش. التجربة تقول إن البقاء ضمن كيان وطني جامع، مع ضمانات واضحة لتمثيل المصالح المحلية، هو الطريق الأذكى للنفوذ والبناء.
في النهاية، القوة لا تكون في العزلة، بل في الشراكة، والنفوذ لا يُبنى على الانفصال، بل على الحضور القوي داخل مشروع وطني عادل وشامل. حضرموت لا تحتاج لمشروع خاص بها لتكون قوية، بل مشروع جنوبي موحد يحتاجها ليكون قويًا، وهي بذلك لا تخسر، بل تربح أضعافًا مضاعفة، متى ما أُحسن البناء واحترمت الشراكة.
وقد يتساءل البعض: إذا كان البقاء ضمن كيان موحد هو الخيار الأذكى لحضرموت، فلماذا لا ينطبق ذلك على بقاء الجنوب ككل ضمن دولة اليمن؟ والإجابة هنا تكمن في التمايز الجوهري بين تجربة الوحدة اليمنية والنماذج العالمية التي بُنيت على أسس التعاقد والشراكة والاحترام المتبادل. فالوحدة بين الجنوب والشمال لم تكن يومًا شراكة متوازنة، بل فُرضت بوسائل قسرية، وانتهت سريعًا إلى الإقصاء والتهميش الممنهج، وتفكيك مؤسسات الجنوب، وتحويله إلى هامش داخل منظومة تفتقر إلى العدالة والتمثيل الحقيقي.
ومع تفاقم الأزمات، وصعود جماعة الحوثي وسيطرتها على مؤسسات الدولة في صنعاء، أصبحت فكرة الوحدة اليمنية مرادفة للهيمنة العقائدية والعسكرية، لا للشراكة الوطنية. فالوضع الذي يعيشه اليمن اليوم أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الجنوب لم يكن شريكًا حقيقيًا، بل ساحة مفتوحة للتوسع والنفوذ. ولهذا، فإن المقارنة بين مشروع الدولة الجنوبية ومشروع الوحدة اليمنية هي مقارنة ظالمة ومجتزأة، تتجاهل السياق، والتجربة، والانهيار المتكرر الذي أثبت أن الجنوب لا يمكن أن يكون جزءًا من دولة لا تضمن له الكرامة ولا السيادة.