لم تكن الضالع يومًا رقعة جغرافية عابرة في الذاكرة الجنوبية، بل كانت صوتًا صارخًا في وجه القمع، ووجعًا صامتًا يدفع ضريبة الحلم دون منّة. في مسيرة الحراك الجنوبي احتضنت قيادات هاربة من بطش النظام، وفتحت ميادينها لصرخات الشعب حين أُغلقت كل الميادين. لم تكن تقدم نفسها، بل كانت تقدم مشروعًا، لم ترفع راية على جرحها لتقول “أنا”، بل كانت تقول “نحن”، وكانت تحترق ليبقى الحلم مضيئًا للآخرين.
ذلك الدور لم يكن عبثًا، بل خرج من وجدان جريح ومقهور، من أسر فُجعت بأبنائها، لكنها وجدت في الوجع معنى للكرامة. كان وجع الضالع سلاحها، وكانت دموع الأمهات صرخة سياسية بلا خُطب.
بعد انتصارها في 2014 ضد نظام صنعاء، تصدّر شبابًا عاطلين عن العمل، وعسكريين متقاعدين، وآخرين لم يجدوا سوى الكفاح خيارًا وحيدًا. هذا الانتصار الشعبي العفوي، المسكون بالعاطفة والمجرد من الحسابات، منحها بريقًا، لكنه أيضًا كشف هشاشة البنية الفكرية والسياسية التي تقف خلفه. العقل الذي تولّى المشهد كان عسكريًا بامتياز، ومنه استمرت الضالع في إدارة حاضرها بذات الذهنية التي حكمت اختياراتها بعد الاستقلال من بريطانيا، حين كانت المؤسسة العسكرية الوجهة الوحيدة وأصبحت الهوية الاجتماعية تتشكل من رتب ومواقع لا من رؤى وأفكار.
غياب الحراك المدني والعقل السياسي المنظم في الضالع ليس ضعفًا طارئًا، بل نتيجة تهميش ممنهج عاشته طوال عقود، من نظام صنعاء الذي لم يسمح بتشكيل نخبة مدنية، إلى مرحلة ما بعد الحرب التي لم تفرز أدوات جديدة، بل كرست نفس الذهنية العسكرية كمسار إجباري. ولهذا لم تجد الضالع نفسها مستعدة لا للحكم، ولا للإدارة، ولا لقيادة مشروع وطني مستدام.
ثم جاء المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه الحامل السياسي المفترض لأحلام الحراك، وكان التكوين لحظة عاطفية استبشر بها الناس كثيرًا، وظنوا أنه ستكون هناك نقلة من ساحات النضال إلى صُنع القرار. لكن سرعان ما تكشّف الواقع، واتضح أن المجلس لم يُبنَ على قناعات نضالية، بل على تحالفات إقليمية وظيفية، وأن كثيرًا من المنخرطين فيه لم يؤمنوا يومًا بأهداف الحراك السلمي، بل وجدوا فيه وظيفة أو غطاء.
تحول المجلس إلى مقاول سياسي لا مشروع وطني، وتحركت أدواته بعقلية شعبوية وارتجالية، وانكشف ضحالة الفكر وغياب الأدبيات، وبدأ التذمر الشعبي يتسع. لكن بدل أن يكون المجلس موضع مساءلة، تحوّلت الضالع كلها إلى موضع اتهام، وكأنها وحدها مَن أنجبت هذا الكيان، وكأنها تتحمل وزره نيابة عن الجميع. دافع عنها أبناؤها بقلوبهم لا بعقولهم، بدافع الذنب لا القناعة، في وقت كانت هي نفسها تختنق من داخلها.
واليوم، الضالع التي كانت تصرخ للجميع، لم يعد أحد يصغي لصراخها. تئن بصمت، لا فقط من فساد الإدارة، بل من شعور داخلي بالخذلان. تدار بأيادٍ فاسدة، يحميها غطاء المجلس الانتقالي ذاته، ويقف على رأس إدارتها محافظ جاء نتيجة تشابه أسماء، لا كفاءة أو رؤية. الضالع اليوم لا تملك صوتًا، لأنها صارت متهمة حين تتكلم، وصار الجميع يتحدث باسمها دون أن يمنحها حق النُطق. وكل من يعاقبها اليوم، من الفاسدين والمتسلطين، يفعل ذلك باسمها، ويدّعي الدفاع عنها وهو ينهشها.
في الضالع، اليوم، لا يعلو صوت فوق صوت الجرح، ولا قضية تتقدم على الحاجة إلى الاعتراف. الضالع لا تطلب تمجيدًا، بل عدالة. لا تريد أن تكون فوق الآخرين، بل فقط أن يُعاد لها صوتها. فحين تصرخ الضالع، لا تصرخ لأجل نفسها فقط، بل تُذكّر الجميع أن الحلم لا يموت بالخذلان، بل بالصمت. وهذا ما ترفضه الضالع، حتى وهي تئن.