في لحظات الانبهار والارتباك، عندما تتهاوى خطط الطوارئ وتنهار بروتوكولات الاستعداد أمام غضب الطبيعة، يبرز أحيانًا إنسان واحد ليعيد إلى المدينة وجهها الإنساني. هكذا كان المشهد في #عدن، حيث تحوّل هطول الأمطار وجريان السيول إلى اختبارٍ قاسٍ لقدرة المؤسسات على الحماية، لكن هناك من اختار أن يختبر قدرته كإنسان قبل أن يكون مسؤولًا. اسمه: الدكتور صلاح الشوبجي، مدير مديرية #البريقة.
ضوءٌ في ظلّ التخبط
لم تكن ساعات السيول مجرد أرقام أو إحصاءات على ورق؛ كانت واجهة اختبارٍ حقيقيٍّ لقدرة المسؤول على اتخاذ القرار، وعمق التزامه تجاه الناس. في وسط هذا التخبط وضبابية القرارات، ظهر تصرُّفٌ واحد بشَّر بأنّ الأمل ما زال يقفز من صدر المدينة: نزول الدكتور الشوبجي إلى مجرى سيل الحسوة، محاولًا بجهدٍ إنسانيّ إنقاذ مواطنٍ كانت سيارته تُجرف كقاربٍ صغير في أعين المياه.
صورة الرجل بين هدير الماء، ووجهه المشرق بالإصرار رغم الخطر، تقول أكثر من بيانٍ أو مؤتمر صحفي. إنها لغة فعلٍ لا تُترجمها بيانات، ونبرةٌ مسؤولةٌ لا تستعير عباءة الشعارات، بل ترتدي ثوب العمل في الميدان.
الإنسانية قبل كلّ شيء
ما يميّز هذا الموقف هو أنّه لم يكن مجرد عملية إنقاذ روتينية؛ بل كان قرارًا متصلًا بأخلاقيات الحكم. حين يفضّل المسؤول حياته من أجل إنقاذ مواطن —حتى لو كانت المخاطرة كبيرة— فإنّه يعلِّم المجتمع درسًا بليغًا في أنَّ المسؤولية ليست لقبًا يُعلَّق في المكتب، بل أمانة تُحمَل على الكتف.
وبعد لحظة النجدة، لم يتوقَّف الدكتور الشوبجي عند حدود الحدث؛ بل وجّه بفتح مدارس البريقة لاستقبال المتضررين، فحوّل حجرات العلم إلى مأوىٍ دافئٍ، ومقاعدٍ مدرسيةٍ إلى أحضانٍ اجتماعيةٍ تُخفف من وقع الخسارة والرعب. هذا القرار البسيط في شكله، عميقٌ في مضمونه: الاعتراف بأنّ المؤسّسات الخدمية يمكن أن تتخذ دورها الإنساني في اللحظات الحاسمة.
درسٌ إداري وحضاري
إنّ ما شهدته البريقة ليس فقط حادثة إنقاذ، بل قصيدة حضارية تُكتب بمداد الالتزام العملي. القيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد التصريحات، بل بمدى التحام القائد بالناس، وبقدرته على تحويل الشعارات إلى أفعال تقطف ثمار الأمان والراحة من قلب الأزمة.
هذا الموقف يضع أمام أعيننا تساؤلاتٍ جوهرية: لماذا تنتظر المدينة أن يهبّ مواطنٌ مسؤول لإنقاذها قبل أن تعمل منظومات الطوارئ؟ لماذا لا تكون المدارس والمراكز جاهزة سلفًا كملاجئ؟ لماذا تبقى خطط الطوارئ على الرفّ بينما الناس تبحث عن مأوى ومأكل ودفء؟
تحيةٌ ونداءٌ
نوجّه تحية من القلب للدكتور صلاح الشوبجي، ليس لأنه نزل الميدان فحسب، بل لأنه استنهض في عمله قيمةً إنسانيةً تُذكِّر الجميع بأنّ إدارة الأزمة تحتاج روحًا ومبادرةً. وفي الوقت ذاته، ينبغي أن لا تظلّ هذه اللحظات استثناءً يُحتفى به، بل أن تتحوّل إلى قاعدةٍ تُستثمر لبناء منظومة استعداد دائمة.
نداءٌ إلى الجهات المسؤولة: اجعلوا من تجربة البريقة حافزًا لتقوية آليات الطوارئ، تجهيز الملاجئ، وخطط الإخلاء والإغاثة. اجعلوا من المدارس والمباني العامة مراكز استقبال جاهزة، ودرّبوا الفرق المحلية على الاستجابة السريعة. فالأزمات ليست مسرحاً للمواقف الفردية فقط، بل اختبارٌ لقدرة الدولة والمجتمع على حماية أفرادهما.
خاتمة: حين تنتصر الإنسانية
في نهاية المطاف، تُذكّرنا لحظات مثل لحظة الدكتور الشوبجي بأنّ المدينة —مهما فشلت أنظمتها أحيانًا— لا تموت ما دام بين أهلها من يمدّ اليد. هناك ضوءٌ في عتمة التخبط؛ ضوءٌ بسيط المظهر، عميق الأثر. فلنُسلِّط الضوء على هذه النماذج، نحتفي بها، ونبني من فعلها سياساتٍ لا تترك الناس فريسةً للمجهول.
تحية إجلالٍ وعرفانٍ لكل من نزل إلى الميدان، ولجميع فرق الإنقاذ والمتطوعين، وللمواطنين الذين تآزروا في ساعة الشدّة. ولعلّ ما قدّمه الدكتور الشوبجي يصبح دفعةً لتأسيس ثقافةٍ إداريةٍ إنسانيةٍ تُعيد لمدننا أمانها وكرامتها.