الصدارة سكاي متابعات
يُعرَّف النقد الأدبي بأنه فن تقييم الأعمال الأدبية والفنية والحكم عليها وتحليلها على أسس علمية، أي انطلاقا من النظريات والمناهج العلمية. فالناقد الأدبي ليس حرا حرية مطلقة، بل هو مقيد بقواعد وأسس النظرية التي ينطلق منها والمنهج النقدي الذي يطبقه. إنه ليس حرا إلا في اختيار المنهج وعليه بعد ذلك أن يلتزم بذلك المنهج وبخطواته الإجرائية. يستخدم الناقد منهجاً وينطلق من نظريات، والنظريات والمناهج لا تفرِّق بين كبير وصغير. ليس أمام النقد مسلمات وأحكام جاهزة، وكل كاتب مهما كان كبيرا يخضع للنقد، يجب على الناقد إن كان يعرف مهمته جيدا أن يتخلص من سطوة الاسم إذا كان يتعامل مع أديب مشهور له اسم وتاريخ كبير، إذ عادةً ما تكون للكاتب الشهير هالة تطغى على الناقد وتشوِّش عمله، لهذا يجب عليه أن يحيّد الاسم جانبا وهو يتعامل مع النص، أن ينظر إليه معزولا عن صاحبه حتى يتمكن من السيطرة عليه وترويضه. يستوي أمام الناقد الكاتب الشهير والكاتب المغمور؛ أمام الناقد نصّ، وذلك النصّ يخضع للمحاكمة النقدية بمعزل عن كاتبه.
النقد الأدبي لغة ثانية، مرحلة تالية وتابعة للإبداع، فالأدب يأتي دائما أولا ثم يأتي النقد، لكن النقد لا يقوم على الأدب، بل ينطلق من النظريات والفلسفات والمناهج. حضور النقد ضرورة ثقافية، من ينبغي أن ينزعج من غياب النقد هم الأدباء أنفسهم، فغيابه يعني ترك المجال لغير المتخصص، وهنا تكون الكارثة، حين يدخل من لا معرفة له بأصول النقد وقواعده ومناهجه ونظرياته ويكتب كلاما شبيها بالنقد وليس بنقد، كلاما يتشبَّه به وليس منه، لأنه عبارة عن حشر مصطلحات متنافرة في مكان واحد، حتى تبدو للقارئ العادي كلاما عميقا، وهي لا علاقة لها بالعمق ولا بالنقد ولا بالمعرفة.
في اليمن نماذج من هذا السلوك الذي يسيء إلى الأدب والنقد معا، وقد نشرْتُ في صفحتي نماذج من تلك العينات التي لا تفرق بين الأجناس الأدبية وتخلط بين المصطلحات والمفاهيم. وهذا للأسف البديل عن النقد الأدبي المتخصص.
إننا نشهد أزمة نقدية، أو لنقل ركوداً نقديا، وفي المقابل هنالك غزارة في الإنتاج الأدبي وتسارع في النشر رغم الظروف والاحباطات. يزداد عدد المبدعين الشباب وتتوالى إصدراتهم، ولا يجدون رعاية كافية أو احتفاء من قبل النقاد. يقطع الشاب المبدع مسافات وجهداً ليمنح الناقد الفلاني نسخة من مؤلّفه موقَّعة بكلمات الامتنان والأمل، لكن ذلك الناقد يذهب إلى بيته، يضع الكتاب في الرّف وينساه، لا يكلِّف نفسه حتى كتابة منشور فيسبوكي قصير يحيِّي فيه الكاتب ويرحِّب به عضوا جديدا في الأسرة الأدبية. يضِن الناقد حتى بكلمة في مقيل. إنه الصمت والكسل، وربما هو حسد المثقف، الذي يظن أن كلمة منه ستجعل فلاناً شاعرا معروفا، وفي الحقيقة أن ما يجعله شاعرا معروفا هو شعره وليس كلمتك، كلمتك مجرد تعريف، تُعرِّف بك أولاً كناقد قبل أن تعرّف بالكاتب، الأديب المبدع سينال حقه من الشهرة مهما انتظر ومهما واجهتم إنتاجه بالصمت، في الأخير سيجد فرصته وتصل كتبه ويذاع اسمه، وأنت سيتجاوزك الزمن وينساك الناس حتى طلابك ..
في اليمن عشرات النقاد المتخصصين من حملة الدكتوراه، ترى الأديب يسعى إليهم بكل فرح مهديا إياهم نسخة من مؤلَّفه، عسى أحدهم أن يكتب حتى مقالة تعريفية، أو خبرا في صفحته في الفيسبوك أن فلانا أهداني مؤلفه الفلاني، لكن ذلك لا يحدث، يأخذ الناقد الكتاب ويضعه في مكتبته إن كان لديه مكتبة، ولا يكلّف نفسه حتى قراءته، يترك مهمته فيستلمها كاتب لا علاقة له بالنقد ويرتكب مجزرة في المصطلحات والمفاهيم والأحكام النقدية، فيختلط الأمر على المبدع والمتلقي، وتزول الحدود بين الأدب وغير الأدب، الإبداع الحقيقي والمزيف، المبدع وغير المبدع ..
وبالمقابل فإن المبدعين كثيراً ما يردّدون تقبّلهم للنقد وترحيبهم به مادام نقداً بنّاءً، وفي الحقيقة ليس هناك من الناحية العلمية نقد بنّاء وآخر هدّام، هذه التسمية مجرد استخدام صحفي غير دقيق وغير متخصص، إضافة إلى أن هذا التقسيم تصنيف سياسي في الأصل، إذ تَعتبِر السلطات كلَّ نقد في صالحها نقداً بنّاء، وكل ما هو ضدّها نقداً هدّاما. أما النقد في حقيقته فهو عملية منظمة لها قواعد وأصول ونظريات ومناهج، ومن هنا فهي كلُّها عملية بنّاءة وضرورية ومطلوبة، لا يتضرّر منها إلا فاقدو الموهبة قليلو المعرفة، وهؤلاء هم من يحاربون النقد، إذ يعتبرونه مهدّداً لوجودهم الهشّ مضرّاً بمصالحهم. إن النقد عملية منظَّمة تهدف إلى تقييم الأعمال الأدبية والفنية والحكم عليها وتحليلها على أسس علمية انطلاقاً من النظريات والمناهج العلمية، ولهذا فهو، اي النقد، لا يعادي ولا يهاجم، وكل ما يفعله تجاه الأعمال الرديئة هو تجاهلها. فمادام عملك قد اختير موضوعاً للنقد فذلك يعني أنه قد توفّرت له الشروط الكافية ليكون نصّاً أدبياً مؤهلاً للمراجعة النقدية.
ليس هناك عداوة بين النقد والإبداع مطلقاً، بل هنالك معارك وهمية يختلقها قليلو الإبداع والموهبة، إنها ضربات استباقية حتى يُفَسّر أي نقد يتناول مخرجاتهم الركيكة بأنه رد فعل ومجرد خلاف بين المبدع والناقد. وتلك كلها محاولات فاشلة، فحتى لو اجتمع كل المحسوبين على الفن والأدب ونفّذوا محرقة ضد كل النقاد، فسوف يبقى إنتاجك ركيكاً وهزيلاً، وحتما سوف يأتي من يقول لك ذلك ..
في اليمن هناك موقفان متعارضان من النقد؛ الأول يرى أن النقد في اليمن أكاديمي حبيس أدراج الجامعة ومكتباتها، والثاني يقول إن النقد يكتفي بالملاحظات العابرة في الفيسبوك. والحقيقة أن الحياة الأدبية في اليمن تحتاج إلى النوعين؛ النقد الأكاديمي مهم جدا، وينبغي أن تُطبَع تلك البحوث العلمية لترى النور ويطلع عليها المختصون وغير المختصين. لكن المبدع يحتاج كلمة ولو سريعة، فلا يمكنه الانتظار حتى يأتي باحث ماجستير أو دكتوراه ليسلط الضوء على عمله. هو بحاجة إلى رأي سريع ولو في عدة سطور في الفيسبوك كدعم معنوي، كما إن الأعمال الرديئة تحتاج أيضاً إلى من يقول لها ذلك ويشير إليها ولو في سطور كنوع من التنبيه المبكّر.
هنالك أدب غزير ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك يتطلب نقدا مواكبا له يستخدم نفس الوسيلة، والكتابة النقدية في هذه الحالة يجب أن تتخفف من عبء المنهج ما دامت تقدم رسالتها في سطور، فمن غير المنطقي ان تكتب رأيا نقديا في أربعة سطور وتكتب له مقدمة منهجية في أربع صفحات، المنهج النقدي مثل الجرافة الكبيرة، لا يصح مطلقا أن تحضرها لتردم حفرة صغيرة، فلكل مقام مقال، ومقام المنشور الفيسبوكي يختلف عن مقام الدراسة النقدية. المضحك أن زملاءنا النقاد هم من يطالبوننا بذلك، وذلك سببه جهل بعضهم بطبيعة الكتابة الفيسبوكية التي يجب ان تتخفف من المقدمات النظرية والنتائج والتفاصيل غير الضرورية، أن تطرح الفكرة بشكل مباشر في سطور قليلة، فالمتصفح لديه على الأقل خمسة آلاف صديق ومتابع، لا يمكنه أن يتركهم ويبقى معك يقرأ مقالة تتكون من عدة صفحات.
إننا نواجه مشكلة ونحن ننشر ملاحظاتنا النقدية السريعة على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك، تلك المشكلة ليست مع الناقد الحقيقي بل مع النقاد الكسالى، أو ما أسميتهم بـ ” العقلاء”، الذين تخلّوا عن دورهم في مواكبة العملية الأدبية والفنية، وبدلاً من أن يتخلّصوا من عجزهم في متابعة تلك الأعمال وتقويمها، يتفرغون للتعبير عن قلقهم مما نكتب. هنالك فقر نقدي كبير، وتلك مسألة لا يمكن نكرانها، ومع ذلك فإن ما نكتبه من ملاحظات عابرة تساهم ولو بجزء يسير في تقييم العملية الفنية والأدبية، نرى “العقلاء” من زملائنا وأصدقائنا ينزعجون كثيرا ويغضبون نيابة عمّن نكتب في حقهم، وليتهم يكتبون لكُنا اعتبرناهم قدوة لنا،، لكنهم صامتون تجاه كل ما يُكتَب، لا يكتبون حرفا واحدا في حق رواية أو مجموعة قصصية أو شعرية، أو حتى رأيا نقديا عابرا في قصيدة أو قصة أو عمل فني، هذا رغم أنه ما من مبدع يمني يطبع كتاباً إلا ويرسل لهم نسخا من كتاباته، تلك النسخ تذهب إلى الخزنة يأكلها التراب والإهمال. إن العقلاء من زملائنا لا يرون أي علّة في الساحة الأدبية والفنية إلا ما نكتبه من نقد، فهم يرونه خطراً يهدد المبدعين ويقلق النقاد.