نسيم بارد تمدُّه نافذتي التي أسند رأسي عليها، لاشيء يملأ هذا السكون الملفوف بظلمة حالكة سوى نباح الكلاب، و صوت محركات السيارات المارة من حين لآخر و عجلاتها المتناحرة مع الإسفلت، النجوم كحالها كل ليلة تطرز وجه السماء المعتم، والقمر خجلٌ كصبية نضجت محاسنها فتوارت عن الأنظار، و من بين الوحشة التي يضفيها نباح الكلاب يتسلل صوت سيارة إسعاف، يقترب صوتها شيئا فشيئا!
ينقبض قلبي كلما سمعته…
يرحل خيالي إلى حيث كانت تقف…
الجميع مرتبك والجَلَد المصطنع لا يخدم السيقان المرتجفة!
حناجر جافة كأن الماء لم يعرف طريقها دهرا، وقلوبٌ متفتقة، تشتعل لهيبا كأنما سُكب الملح في فتوقها!
تمر الثواني كجبال تسعى لتغيير محلها، يتمنون لو أن أنفاسهم تهبط وترتفع في صدره مع أنهم بالكاد يحركونها، فقد حبسها تتبعهم لنبضه الذي يكاد يغيب!
صمتٌ تولّت زمامه نظرات حائرة متبادلة تشكو العجز عن تحديد الوجهة الصحيحة.
أي حسابات لا تؤدي لإنقاذ روحه، موءودة قبل أن تولد!
وكل الطرق التي تؤخّر ذلك لابد أن تمحى من الخارطة،
البعض منهم بجانبه يتوسّل لنبضه أن لايغيب، والبعض الآخر ينتظر على الرصيف لاعناً ابتلاع طول الطريق للمزيد من الزمن…
كم من العمر تسرق تلك اللحظات؟ فهي تغزُّ أظافرها فيه وتسحب ماطاب لها أن تسحب؟!
كم يهدم معولها في جدار الصمود؟ و كم شمعة تُطفىء في الحنايا مخلفة وراءها زوايا مظلمة يقف كل نورٍ مكتوف الأيدي أمام إعادة إيقادها؟!
كم خلية تمر بطور الحياة من المهد إلى اللحد في أولئك العالقين بين الأمل والخوف كلمح البصر؟!
تفقد إحدى بناته أعصابها وتستهل موجة بكاءٍ هستيرية، يضع أخوها كفّهُ المرتجف على فمها ويسحبها إلى خارج الغرفة، بينما يحاول الباقون صنع حراكٍ للهواء بطريقة أو أخرى بحركات مضطربة، يطلق زفرة تعيد قلوبهم المتقافزة إلى مواقعها، يشق ضوء سيارةٍ ظلام الشارع فيتسلل إلى روح الواقف في أوله، يستخدم هاتفه النقال بينما يلوح بيده للسائق بأن يسرع: وصلت وصلت.
بسرعة خاطفة تصبح النقّالة بجواره…تحمله أكفهم إليها برفق، تهبط النقّالة المحمولة السلّم، يتأمله الباقون في المنزل من أعلاه وهم يجتثون كل فكرة تنبت بأنهم لن يروه ثانية، وقلوبهم تضخ الدعاء سرًا، و ألسنتهم تلفظ ماتيسر منه علانية…
يقترب الصوت فيملأ أذنيّ ويضطرب قلبي أكثر، أتمتم دعاءً غيبيًا غير منتظم تستجره ذكرياتي و يعتصره قلبي الذي صارت نبضاته رهن الصوت المُقترب، الصوت أصبح مصدره قاب عينيَّ أو أدنى، فضوء السيارة كشف الرصيف المقابل لنافذتي تماما!
تمر سيارة خاصة تعتليها صافرةٌ تُصدر صوتًا وأضواء، وفي جوفها مجموعة فتيان تعلو أصوات ضحكاتهم الصاخبة على صوت الصافرة بين لحظة وأخرى، تخونني ساقاي المرتجفتان لتجبراني على الجثو، أضع إصبعيَّ في أذنيَّ وقلبي ولساني يتجاذبان حمدًا لله، وبضع شتائم أتمنى لو تلحقهم سمعا.