منذ إعلان نقل السلطة الشرعية إلى مجلس القيادة الرئاسي في السابع من أبريل 2022، مرت على الأقل سنة ونصف دون أن تظهر أي مؤشرات على أن هذا المجلس سيحدث فارقا في حياة اليمنيين. إنهالت حينها انتقادات وتعليقات المحللين والنشطاء والمراقبين للوضع في اليمن، واصفة المجلس بالتبعية المطلقة لدول التحالف (السعودية والإمارات) وعدم وجود أي رؤية خاصة لديه لإنقاذ البلاد واستعادة مؤسسات الدولة من قبضة مليشيا الحوثي.
في أغسطس من العام الماضي وجه رئيس مجلس القيادة الرئاسي الحكومة بإلزام الوزراء بالعودة لممارسة أعمالهم من العاصمة عدن، ويبدو أن عدم تنفيذ التوجيه الرئاسي بالسرعة المطلوبة ألقى بظلال من الشك على جديته وإمكانية تنفيذه نظرا للتحديات الأمنية والخدمية أمام تواجد الحكومة في عدن. تطلب الأمر عدة أشهر لتنتظم أعمال الحكومة من الداخل، وذهبت تحليلات المراقبين إلى افتراض وجود انقسام بين أعضاء المجلس بخصوص عدد من القضايا وأبرزها عدم رضا بعض أعضاء المجلس عن أداء رئيس الحكومة السابق معين عبدالملك. استندت تلك التحليلات إلى التصريحات العلنية لعضوي المجلس عيدروس الزبيدي وعبدالرحمن المحرمي عن تقصير الحكومة في أداء واجبها تجاه تحسين الخدمات العامة والأوضاع الاقتصادية للمواطنين، خاصة مع تصاعد أزمات الكهرباء والوقود والانهيارات المتلاحقة للعملة الوطنية.
تجاوز الاختلال الكبير
من المعروف في كل بلدان العالم أن تعيين رئيس حكومة يتم إما بناء على نسبة الفوز في الانتخابات أو على توافق السلطة العليا للبلاد على شخصية تتوفر فيها المواصفات المطلوبة للمرحلة وتحظى بدعم جميع شركاء الحكم. وفيما يخص اليمن، كانت المرحلة في أواخر العام 2018 تقتضي تعيين شخصية تتمتع بكفاءة تكنوقراطية ومحل قبول لدى جميع القوى السياسية في نطاق السلطة الشرعية، وتوفرت هذه المواصفات في معين عبدالملك. حيث يرى المتابعون للأوضاع في تلك المرحلة أن الإجراءات التي اتخذتها حكومة معين عبدالملك تلافت الكثير من الانهيار الاقتصادي وعملت على تماسك العملة الوطنية نسبيا، لكن التطورات اللاحقة فرضت مرحلة جديدة، حيث جاء اتفاق الرياض في نوفمبر 2019، وتمت إعادة هيكلة الحقائب الوزارية وتقليصها وكانت المرحلة تقتضي أن تشمل التغييرات رئيس الحكومة. ومع ذلك استمر معين عبدالملك في رئاسة الحكومة المعاد تشكيلها وفق اتفاق الرياض مناصفة بين الشمال والجنوب، ثم جاء إعلان نقل السلطة إلى مجلس القيادة الرئاسي، وبقي معين في المنصب ذاته.
بتشكيل مجلس القيادة الرئاسي برئاسة رشاد العليمي، وبقاء معين عبدالملك في رئاسة الحكومة، وسلطان البركاني رئيسا لمجلس النواب، ظهر اختلال كبير في تركيبة السلطة الجديدة، ونبّه كثير من المحللين والمراقبين إلى أن شغل مناصب الرئاسات الثلاث للدولة من قبل شخصيات من الشمال يعدّ خللا في تركيبة السلطة الحاكمة بموجب محددات التوزيع الجغرافي الذي تتطلبه المرحلة. ليس ذلك وحسب، بل إن الشخصيات الثلاث تنتمي جغرافيا لمحافظة تعز، وهو أمر لم يصدر عنه تعليق رسمي من قبل القوى السياسية في الجنوب، لكن كان يجب معالجة الاختلال بموجب تقديرات الأولوية لوضع الدولة الراهن.
بتعيين أحمد عوض بن مبارك رئيسا للحكومة في 5 نوفمبر الماضي، بدأت ملامح التعافي تظهر في بنية الدولة وانعكس هذا إيجابيا على نشاط مجلس القيادة الرئاسي ونشاط الحكومة معا. وتعكس تحركات رئيس الحكومة الجديد والإجراءات التي يتخذها في مسار الإصلاحات الاقتصادية والإدارية مدى دعم أعضاء مجلس القيادة الرئاسي لهذه التحركات، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التوافق بين أعضاء المجلس.
مؤشرات التعافي
انعكس إصلاح الاختلال في الرئاسات الثلاث الذي كان يعصف بالتوافق الرئاسي من تحت السطح، على نشاط مجلس القيادة، حيث انتظم أولا جميع أعضائه في العمل من الداخل وهذا وفر مناخا سياسيا كان البلد فقده منذ اندلاع الحرب التي فجرتها مليشيا الحوثي بانقلابها على السلطة الشرعية في سبتمبر 2014. انتظم عمل الوزراء من الداخل أيضا، وأعطت الزيارات الميدانية لمسؤولي الصف الأول في الدولة إلى المؤسسات والمرافق الحكومية، انطباعا للمواطنين بحضور الدولة إلى جانبهم ومقاسمتهم ولو جزءا صغيرا من الظروف القاسية التي يعيشونها. انتظمت أيضا اجتماعات مجلس القيادة الرئاسي، والاجتماعات التي يعقدها رئيس وأعضاء المجلس بمسؤولي الحكومة والتوجيهات المستمرة بتركيز الجهود على بناء نموذج الدولة الذي يعيد الثقة بها لدى المواطنين والمجتمع الإقليمي والدولي… وما إلى ذلك من إجراءات تفعيل مؤسسات الدولة واستعادة تلك التي سيطرت عليها مليشيا الحوثي بالانقلاب على التوافق الوطني وتفجير الحرب وتبنّيها لمشروع النظام الإيراني ونظام الإمامة.
وفي الوقت الذي يضغط فيه المجتمع الإقليمي والدولي على مجلس القيادة الرئاسي بقبول خارطة طريق السلام بصيغتها الحالية، أصبحت تصريحات رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي أكثر وضوحا فيما يتعلق برفض أي صيغة سلام مع مليشيا الحوثي لا تتضمن المرجعيات الثلاث، والثوابت الوطنية التي يأتي في مقدمتها النظام الجمهوري بما يتضمنه من شروط الانتخابات والمواطنة المتساوية والشراكة السياسية المبنية على المصلحة الوطنية وتوازن القوى.
بهذه المؤشرات يبدو مجلس القيادة الرئاسي في طريقه إلى استعادة الثقة بالمجتمع الإقليمي والدولي، ويعزز من موقفه على هذا المستوى مدى نجاحه ونجاح الحكومة في تفعيل إيرادات الدولة غير النفطية قبل الإيرادات النفطية ليخلّص بذلك اليمن من البقاء عالة على الأشقاء في دول الخليج العربي أو المساعدات الخارجية من الدول الصديقة. أما استعادة ثقة المواطن بالدولة، فلن تتحقق إلا بالحلول العملية الملموسة لمشكلات الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الأمن والكهرباء والمياه والتعليم والصحة والاتصالات، وإنهاء الفساد المتفشي في المؤسسات الحكومية. وهي حلول تعتمد على تحسين الإيرادات وترشيد الإنفاق، وإعادة الروح إلى العملة الوطنية ورفع قدرتها الشرائية، وإعادة مركز الدولة السيادي في العلاقات الخارجية عبر تطوير الكفاءة الدبلوماسية وإدراك قيمة الموارد الطبيعية لليمن. بالتوازي مع هذا، يتطلب النجاح في مسار الإصلاحات الحكومية معالجة المزيد من اختلالات تركيبة السلطة في المناطق المحررة بالمضي في إجراءات معالجة الأخطاء السياسية الفادحة التي نشأت منها القضية الجنوبية، على أن تكون المعالجات وفقا للمعطيات الجديدة وأبرزها أن الجنوب حاليا هو الحاضن الأكبر للدولة المغدورة بعد انقلاب مليشيا الحوثي على صنعاء والسيطرة على معظم المحافظات الشمالية. بعد ذلك، واعتمادا على سرعة إنجاز هذه الإصلاحات، يمكن أن يلتف الشمال والجنوب حول مجلس القيادة الرئاسي ليتحقق بذلك تعهده بإخراج البلاد من حالة الحرب إلى حالة السلم، سواء بالسلم أو بالحرب.