قراءة في فرص تجاوز القوى الجنوبية خلافاتها والعمل على تقوية الجبهة الداخلية,
في أوائل العام 2015 اتفق الجنوبيون جميعًا على التصدي لمليشيا الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وبعد مرور أربعة أشهر أفضى هذا التوافق إلى طرد الحوثيين وحلفائهم من المدينة الجنوبية الساحلية.
لكن هذا الاتفاق الذي جرى بشكل تلقائي دون ترتيبات ولقاءات سياسية مكثفة لم يدم طويلاً، إذ أدت تغييرات ما بعد التحرير إلى تصاعد الخلافات الناتجة عن تعدد المشاريع وتضارب الأهداف على الرغم من وجود هوامش جانبية للعمل معًا وترحيل بعض هذه الخلافات.
وتصفير المشاكل الداخلية الجنوبية والخلافات يأتي كهدف رئيسي؛ لكن الواقع الجنوبي يخبر العكس، والآن يتعلق السؤال بالمدى الذي يستطيع الجنوبيون من خلاله العمل على ما يجتمعون حوله مع تأجيل وترحيل التباينات التي من المؤكد أن بعضها رئيسي، لكنها لن تكون أكثر أهمية من ملف تحصين الجنوب
سياسيًا وعسكريًا.
وهذا الملف الأخير في حال لم يحدث توافق حوله من الجنوبيين خلال الفترة القادمة، من الممكن أن يشكل نافذة لهزيمة هي الثانية خلال الثلاثين عامًا بعد حرب صيف العام 1994 دون إغفال بعض الاختلافات في المناسبتين.
اتفاق على الهدف.. واختلاف حول الوسائل
يمكن القول إن غالبية المكونات والفصائل الجنوبية تتفق على هدف أن يعود الجنوب، لما كان عليه قبل العام 1990، وإن كان هناك اختلاف بالوسائل أو الأفكار التي تؤمن بها هذه التيارات للوصول إلى هذا الوضع، حتى الفصائل التي تؤيد خيار قيام إقليم جنوبي أو إقليمين تدرك أن الوصول لهذا يُعد انتصارًا للفكرة الرئيسية لجوهر الدولة وهي التحكم بالثروة والأرض.
يُمكن استثناء التيارات التي تؤيد خيار الدولة المركزية أو بالأحرى التي تؤيد الحكومة الشرعية، وهي قليلة وغير فاعلة حاليًا، على أنه حتى تلك التيارات لا يمكن مصادرة حقها في الرأي رغم عدم واقعية ما تؤمن به في ظل الوضع الحالي الذي يكشف كيف أن العودة لشكل الدولة ما قبل العام 2015 يبدو صعبًا وغير قابل للتطبيق.
وهذه الصعوبة تتعلق بنشوء قوى جديدة ورئيسية قد تتفق على بعض النقاط، لكنها لا تلتقي كثيرًا في المسائل المتعلقة بشكل الدولة القادم لأن الشكل السابق لن يحتمل وجودها جميعًا في السلطة بنفس القوة والتأثير.
لكن خيار العودة لما قبل العام 2015 وإن بدا بعيدًا عن التطبيق، فإن اللجوء لتنفيذه بالقوة أو السياسة من المتوقع أن ينهي القصة لكن الموضوع الرئيسي لن ينتهي بسهولة، إذ ستظل محفزات الصراع موجودة حتى وإن نُفِذت بعض المعالجات على غرار نموذج حرب صيف العام 1994، التي بدأت بعدها بـ12 عاما احتجاجات للحراك السلمي الجنوبي ضد نظام الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح.
يُمكن للجنوبيين الآن وليس غدًا، ترحيل أو تأجيل المشاكل، لأن تصفيرها دفعة واحدة غير منطقي بحكم التقلبات السياسية، وهذا يبدأ من خلال البحث في أسباب الخلافات ومعالجتها بشكل تدريجي وصولًا إلى توفير أرضية صلبة للتفاوض على الأولويات التي يعزز الاتفاق بشأنها تأمين الجنوب وتحصينه.
تباينات أو اختلافات الجنوبيين تتركز أولًا حول وسائل تحقيق الهدف فالمكونات والقوى ذات التوجه الداعي لفك الارتباط تطالب بالخروج من دولة الوحدة دفعة واحدة، فيما تؤيد بعض المكونات والقوى خيار الدولة الفيدرالية من إقليمين شمالي وجنوبي بمدة مزمنة مع خيار الاستفتاء للجنوبيين بالاستمرار في إطار الدولة الفيدرالية أو فك الارتباط.
من الضروري الإشارة إلى أن واحدية الهدف المتمثل باستعادة الجنوبيين لأرضهم بشكل نهائي أو مزمّن يقطع الطريق على المتربصين وكان من المفترض أن يكون ورقة رابحة خلال ما بعد الحرب، لكن ممارسات الجنوبيين من كانوا في السلطة الشرعية والقوى الجنوبية الصاعدة بعد العام 2015 على حدا سواء حالت دون الاستفادة من هذه الورقة المهمة.
الآن.. بوسع الجنوبيين أن يتجاوزوا الشكل القائم عبر التركيز على الهدف الرئيسي المتمثل في تحصين الجنوب وقطع أي محاولات للاختراق من قبل القوى الإقليمية والداخلية، ولأن الوضع السياسي الحالي في اليمن إجمالاً من الصعب التنبؤ به إلا أنه من المرجح أن الحسم بشأن ملف الجنوب لن يحدث خلال اتفاق السلام القادم المفترض بين الحكومة الشرعية والتحالف مع الحوثيين من جهة ثانية.
المجتمع الدولي والقوى الإقليمية ترى أن الأولوية حاليًا هي التركيز على حل الصراع الرئيسي بين الحكومة المعترف بها دوليًا المدعومة من التحالف مع الحوثيين، لأن هذا قد يوسع من دائرة المشكلة اليمنية ويمهد الباب لمطالبات الكثير من القوى رغم أن القضية الجنوبية تختلف تماما من حيث
الثقل والتأثير.
كيف يمكن تجاوز الخلافات؟
من الممكن أن تتجاوز القوى الجنوبية السياسية أسباب الخلاف بينها أو ترحيلها حتى إشعار آخر عبر مصالحة شاملة لا تستثني أحدًا مع ضرورة جبر الضرر لمن ارتكبت بحقهم الأخطاء وإقامة لقاء جنوبي واسع يحمل الصفة الجنوبية العامة دون ربطه أو تسييره لصالح جهة أو مكون أو قيادات معينةأيًا كان توجهها السياسي.
من غير المنطقي أن يمضي الجنوبيون قدمًا لتأجيل خلافاتهم دون أن تعالج الأسباب التي أدت إلى هذه الخلافات وهي جزء منها متعلق بالتوجهات السياسية الحالية وآخر مرتبط ببعض التصنيفات القديمة وبالتالي يجب وقف لغة التخوين والاتهام والانفراد بالجنوب لصالح أي طرف.
يتطلب الأمر وثيقة أكثر شمولاً تضم كافة القوى السياسية الجنوبية على اختلاف توجهاتها تتضمن خطابا موحدا وأهدافا موحدة للتعامل مع الجوار والإقليم والدول الكبرى، وهذا قد يأتي دوره الأبرز بشكل أكبر بعد عملية السلام المرتقبة، لكن حتى الوصول لهذه الفترة؛ يجب على الجنوبيين الوصول لأدنى حد من التفاهمات قبل أي اتفاق سلام خلال الفترة القادمة.
خطوات للتقارب
مجلس العموم الجنوبي هو تحالف عريض عقدت جلسته التأسيسية في مطلع العام الجاري وهو يضم 3 من هيئات المجلس الانتقالي الجنوبي (هيئة لرئاسة، الجمعية العمومية، هيئة المستشارين) وبالتالي فإن هذه الخطوة وإن أتت في توقيت جيد إلا أن تأثيرها لم يتجاوز المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه.
من الجيد أن المجلس الانتقالي الجنوبي يعمل على تقوية تحالفاته وكسب مشروعية أكبر عبر فتح نوافذ حوار واسعة مع عديد المكونات والتيارات السياسية الجنوبية، ترقبًا لأي جولة تفاوض قادمة، لكن الأمر يحتاج لانفتاح أكبر على القوى الأخرى التي لم تشارك.
ومن الواضح أن المجلس الانتقالي سعى إلى جذب هذه القوى أو القيادات الجنوبية سواءً تلك التقليدية أو الصاعدة إلى صفه أو بشكل أدق إلى منطقة التقاء للحوار، لكن الأمر يتطلب تنازلات أكثر وخطوات جبر ضرر وتصحيح للأخطاء تزيل آثار الصراعات السابقة.
عملية التفاهم الأمني في محافظة أبين، التي جرت قبل أكثر من عام أحد أبرز النماذج لما يُمكن أن نطلق عليه خطوة على طريق توافق أكبر في المحافظات الجنوبية، بين السلطات أو القوات التابعة للحكومة مع القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي.
التفاهمات في أبين، التي تضمنت عودة قوات الأمن العام الحكومية إلى مدينة زنجبار ووحدات الأمن الأخرى إلى عاصمة المحافظة مع دخول قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي إلى مديريات المنطقة الوسطى في المحافظة أفضت إلى تنسيق مشترك للحملة الأمنية ضد قوات تنظيم القاعدة في مديرية مودية.
خلافات الماضي والحاضر
كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رغم قوتها وحضورها السياسي والعسكري خارجيًا خلال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، إلا أنها كانت متصدعة من الداخل نتيجة الصراعات العسكرية المتكررة بين قوى الحكم وفصائل الحزب الاشتراكي اليمني منذ ما سميت بثورة يونيو التصحيحية في العام 1969 التي أطاحت بالرئيس قحطان الشعبي وصولاً إلى الصراع الدامي في يناير من العام 1986.
هذه الصراعات كانت بمثابة محطات توقف عرقلت في عديد من المرات مشاريع البناء والتنمية، إذا كان الجزء الأكبر من الدعم والاهتمام يذهب لصالح المؤسسة العسكرية مقارنة بباقي قطاعات الدولة في حين أن الصراع الحزبي كان له أن يصل إلى الحلقة الختامية في العام 1986 وهي الأحداث التي أعلنت عن نهاية جمهورية اليمن الديمقراطية بشكل غير رسمي، رغم أن الإعلان الفعلي أتى بعد أربعة أعوام فقط عندما أعلنت تحقيق الوحدة اليمنية.
الصراع الجنوبي حتى العام 1986 كان يدور في إطار جمهورية واحدة ولم تكن أسباب الخلاف حينها هي نفسها الأسباب الآن رغم أنها جميعها أسباب تتعلق بالتوجهات والمشاريع مع فارق أن جزءا كبيرا من أسباب الخلافات الحالية هوياتية منطقية بدرجة أكبر دون إغفال أن الخلافات المناطقية الحالية هي ناتجة عن الصراعات القديمة.
في الواقع الخلاف الجنوبي داخل الدولة الجنوبية أخطر بكثير مما هو عليه الآن، في الخلافات الحالية في إطار النظام الحالي، لأن في النموذج الأول من الممكن أن تمتلك الكثير من القوى السلاح بحكم حضورها ونفوذها وهو ما يصل إلى صراعات عسكرية كما أوضحت الأحداث في الجنوب في أعوام (1978و1986)، وصراعات الجبهة القومية وجبهة التحرير، بعكس الخلافات الحالية التي وإن قد تُحدث تأثيرات لكنها ليست بنفس نتائج وآثار الصراع ضمن الجمهورية الواحدة.
هل ينجح الجنوبيون في تأجيل خلافاتهم؟
الجنوبيون ليسوا مثل الشماليين في مسألة ترحيل أو تأجيل الخلافات؛ لدى السياسيين الشماليين قدرة على التماهي مع بعضهم البعض حتى وإن كانوا مختلفين فيما إذا سيفضي ذلك إلى نتائج جيدة للمشروع أو الرؤية التي يؤمنون بها وفي كل الحالتين فالأحداث السابقة في الشمال والجنوب توضح كيفية تعامل السياسيين مع خصومهم أو بالأحرى مع المعارضين.
لدى الجنوبيين فرصة لتأجيل خلافاتهم والتركيز للحفاظ على ما هو في اليد، لكن هذا سيحدث إذا قدمت كافة الأطراف المزيد من التنازلات فيما يخص الحديث الاستباقي عن شكل الدولة القادمة لأن المسألة الآن تتطلب الالتفاف والتوحد بغية عدم خسارة المزيد من الأراضي الجنوبية أو خضوعها لسيطرة قوى فاعلة في المشهد اليمني.
إذ إن الملف اليمني بطبيعته مضطرب والتحالفات فيه تتغير وبالتالي فإن تحالف الجنوبيين معًا بقدر ما سيجعل المعادلة صعبة على القوى المتربصة،فإنه سُيغري الإقليم ودول الجوار للالتفات لمطالب الجنوبيين، في حين أن تشتت المطالب الجنوبية عامل يُعقّد من حصول القضية الجنوبية على حقها وحضورها المناسب في العملية السياسية في اليمن.