لا حدود لأقدار الله ولا يمكن التنبؤ بها، لكن تبجّح المليشيا الحوثية بما تسميه “التمكين الإلهي” يذكّر اليمنيين أيضا بالقول المأثور “يمهل ولا يهمل”. وفي حين تجرأت المليشيا الحوثية على تفسير النصوص القرآنية وكل ما له علاقة بالإسلام لخدمة مخططها في الانقلاب على السلطة الشرعية ثم الترويج لأحقيتها في حكم اليمن، فإنها ما زالت غافلة عن الكثير من نقاط قوة الشعب اليمني وحكومته الشرعية، ومن تلك النقاط أن الله والدين ليس حكرا على جماعة أو طرف.
كانت المليشيا الحوثية تحتضر سياسيا وشعبيا قبل هجوم حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، لتجد الجماعة في “مناصرة” غزة والقضية الفلسطينية طوق نجاة ركضت نحوه بكل ما لديها من قوة رغم الظروف الإنسانية الشاقة التي يعيشها اليمنيون في مناطق سيطرتها. ولأن القضية الفلسطينية تجري في دماء الشعب اليمني، نسي قسوة حياته في ظل حكم المليشيا الحوثية وجورها، وهتف لأجل غزة وفلسطين. ولم تكتف المليشيا بذلك، بل فرضت على المواطنين جبايات مضاعفة وتبرعات إجبارية لتمويل صناعتها الحربية المدمرة للبلاد قبل إسرائيل وأمريكا.
9 أشهر مرت لا يستطيع فيها اليمنيون في مناطق سيطرة المليشيا الحوثية أن يتفوهوا بكلمة عن الوضع المتدهور يوما بعد يوم بسبب استمرار هجماتها على السفن التجارية ورهنها لمصير الشعب اليمني للإرادة الإيرانية وأجندتها في صراعها مع إسرائيل، متجاوزة بذلك الموقف العربي الساعي إلى التهدئة وإحلال السلام بالطرق الدبلوماسية. خلال هذه الشهور ال9 لم تتوقف مليشيا الحوثي عن ابتزاز اليمنيين في مناطق سيطرتها باسم مناصرة المقاومة الفلسطينية ومحاربة أمريكا وإسرائيل، وابتزاز السعودية والحكومة الشرعية باالعودة إلى الحرب، وكذا شنّ هجمات غادرة على مواقع الجيش الوطني ومواقع القوات المنضوية تحت مظلة مجلس القيادة الرئاسي، لم تكتف المليشيا الحوثية بذلك، بل تمادت في قصف الأحياء السكنية في تعز والضالع والحديدة ومأرب. كما زجت في سجونها المظلمة بكل من يعارض انخراطها في الحرب ضد إسرائيل وفق الأجندة الإيرانية، واتهمتهم بالعمالة والخيانة والتجسس لصالح أمريكا وإسرائيل.
كل هذه الإجراءات التعسفية والجرائم بحق معارضيها قامت بها مليشيا الحوثي لكي تقمع الشعب اليمني وتلهيه في نفس الوقت عن المطالبة بحقوقه منها كسلطة فرضت حكمها عليه بالانقلاب على نظام الدولة وبقوة السلاح.
وعندما أقدمت الحكومة الشرعية على اتخاذ قرارات سيادية لإنقاذ الاقتصاد الوطني ومؤسسات الدولة من تمادي العبث الحوثي، تدخلت الأمم المتحدة كالعادة بدعم من المجتمع الإقليمي والدولي لإنقاذ المليشيا الانقلابية بدلا من دعم قرارات إنقاذ الشعب.
مرة أخرى ضيقت الحكومة الخناق على المليشيا الحوثية ومرة أخرى جاء تحرك المجتمع الدولي والأمم المتحدة ليقدم طوق نجاة آخر لمليشيا لا عهد لها ولا ذمة.
كانت قرارات الحكومة قاب قوسين أو أدنى من إخضاع المليشيا الحوثية لمنطق العقل الذي ظلت دول الإقليم والعالم يطالبها بالاحتكام إليه دون جدوى، وبعد أن خرج زعيم المليشيا ليهدد بتصعيد الوضع عسكريا ومهاجمة السعودية، تدخل المبعوث الأممي في مخاطبة مجلس القيادة الرئاسي للتراجع عن قراراته الخاصة بالقطاع المصرفي وقطاع النقل، ثم جاء تراجع المجلس الرئاسي عن هذه القرارات، فظهر الوضع كأن هذا التراجع تم بسبب التهديد الحوثي بإشعال الحرب مرة أخرى ومهاجمة دول الجوار.
يرى مراقبون كثر أنه في ظل وضع كهذا لسير معركة السلطة الشرعية لاستعادة مؤسسات الدولة والحفاظ على المركز القانوني للدولة، لا غرابة أن تتمادى مليشيا الحوثي أكثر في مطالبة الحكومة الشرعية بتنازلات لا تزيد فقط من خلخلة المركز القانوني للدولة، بل وتمنح المليشيا وضعا قانونيا يتنافى مع القوانين والأعراف الدولية.
من جبهات القتال إلى جولات المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة ووسطاء إقليميون ودوليون، وصولا إلى حرب غزة وإسطوانة المواجهة العسكرية مع أمريكا وإسرائيل، كل هذه مراحل حفلت بمواقف وأحداث شكلت أطواق نجاة لمليشيا الحوثي التي تعرف أن الحكومة الشرعية والأطراف الوطنية المنضوية تحت رايتها ليست عاجزة عن كسر شوكتها وإجبارها على الاحتكام لصوت العقل. ولأنها تعرف فاعلية أطواق النجاة هذه، وتعرف أن الشعب اليمني سوف ينهشها بمجرد حلول السلام، تستمر المليشيا في البحث عن المزيد من أطواق النجاة مع استمرارها في تفسير ذلك بما تسميه “التمكين الإلهي” بهدف التغرير بالبسطاء من الشعب اليمني.
تعرف مليشيا الحوثي أيضا أن الشعب بدأ يلمس نتائج إقحامه في حرب إيرانية ضد أمريكا وإسرائيل، لذلك أقدمت على مهاجمة تل أبيب بطائرة مسيّرة أظهرت التحليلات أن مراكز تحكم إيرانية في المنطقة اشتركت في تسييرها إلى تل أبيب. وقد أقدمت المليشيا الحوثية على هذا التصعيد لكي تحصل على طوق النجاة الأكبر، وهي الحرب مع إسرائيل مباشرة، والتي لم يتمالك زعيم المليشيا نفسه من التعبير عن سعادته الغامرة بالعدوان الإسرائيلي على الحديدة في ال20 من يوليو الجاري