في لحظة لم تكن في الحسبان، انكسر القلم قبل أن يكمل حكاية رجل خلق من صلابة الجبال.. رحل الرجل الاستثناء الذي لطالما كان صدى الجنوب الموجوع وأمله العنيد.. رحل محمد ناجي سعيد، فأسدل التاريخ ستارًا من الحزن على صفحة لم تكتمل.
لمجرد أن نذكر اسمك “محمد ناجي سعيد”،فاننا نتذكر كل مايتعلق بالثورة ،وعندما نتحدث عنك فإننا نتحدث عن الثورة بكلها، تشردت،طوردت، تعذبت ولم تنل منك كل تلك الظروف الصعبة وعوامل التعرية السياسية التي شكلتها عصابات 7يوليو، بل ظليت شامخا كالجبل . رحلت يا محمد ناجي، أيها اللواء الذي لم يلوث يديه تراب الخيانة، ولا عرف إلى قلبه درب الوجل، رحلت بعد أن سطرت في ذاكرة الجنوب ملحمة وطنية قل نظيرها،كنت من أوائل من صدحوا بصوت القومية، من روادها الأوائل، حملت هم الأمة في وجه المستعمر الأجنبي، ثم انتقلت إلى صفوف القومية العربية ، فإلى ميادين الجيش، ثم إلى قاعات البرلمان، دون أن تنكسر فيك روح المناضل، أو تنثني فيك قامة المبدأ.
كل من عرفك، كل من سار معك، يشهد أنك كنت نقي اليد، أبي النفس، عفيف اللسان، شهماً لا يخذل عند الشدائد، ورفيقاً لا يتخلى عن درب الحق مهما اشتدت العواصف.
رحلت، أيها الاستثناء، أيها الغيور، الحر، العتيد، الشهم، والرفيق الوفي، رحلت بعد أن زرعت فينا معنى الثورة، وأشعلت جذوتها مع رفاقك النشاما في حتم، وكنت من أبرز رجال اللجان الشعبية، حين كانت تنبض بروح النضال الخالص، لا تبتغي سلطة، ولا تبحث عن مجد زائل.
ناضلت من منظمة الحزب الاشتراكي، المنظمة التي احتضنت المناضلين الصادقين، كنت صوتهم وضميرهم، لا تساوم على وطن، ولا تهادن في حق، حتى آخر يوم من أيامك. يا فارس الجنوب، كيف تترجل في عز الطريق؟ كيف تطفأ نارك التي أشعلت فينا الشوق للكرامة، وأوقدت في صدورنا جذوة لا تنطفئ؟ لقد مضيت بجسدك، لكنك تركت فينا أثرا لا يمحى، وخطواتك ستبقى خارطة لوجهة الحرية التي آمنت بها حتى النفس الأخير.
كنت لنا البوصلة حين تاهت الدروب، والصوت حين خرست الحناجر، كنت العين التي ترى في عتمة الخيبات بصيص فجر، واليد التي تمتد لتسند الضعف وتوقظ العزم.. فكيف نكتب بعدك، وأنت الذي علمتنا كيف يكتب المجد بدم الصادقين؟
أيها اللواء المناضل الكبير ، لم تكن مجرد اسم في سجلات الثورة، بل كنت معناها، وصداها، وروحها التي لا تهدأ.. عشت متقشفًا، زاهدًا، كبيرًا بموقفك لا بموقعك، ومضيت كما الكبار، بلا ضجيج، لكن وجع غيابك أكبر من كل الصرخات.
نم قرير العين أيها الجنوبي الجليل.. فالأرض التي مشت عليها قدماك لن تنسى وقعك، والجبال التي سمعت صوتك لن تسكت عنك.. ستظل لنا نبراسًا، ومنارة في ليل طويل لا نملك فيه سوى أن نتمسك بما تركته لنا من مبادئ، ونعاهدك أن لا نخذل حلمك ذات وطنٍ حرّ، لا يهان فيه إنسان، ولا تكسر فيه راية.
سلام عليك يا من عز فيك الرحيل.. سلام على قبرك وعلى صبرك، وعلى تاريخك المحفور في قلب الجنوب، لن نودعك، لأنك لم تفارقنا.