عززت الصين وروسيا علاقاتهما مع دول الشرق الأوسط وتحديدا الدول الخليجية النفطية، والتي يمثل التحالف معها فرصة كبرى لتعزيز النفوذ في المنطقة على حساب الولايات المتحدة، الحليف التقليدي الذي بدأ يستشعر خطورة الأمر ويكثف تحركاته لإحباط أي محاولة قد تضر بمصالحه الاقتصادية ونفوذه.
واستشعرت الولايات المتحدة خطر تراجع نفوذها في منطقة الخليج عقب توجه المملكة العربية السعودية نحو تنويع شركائها الإستراتيجيين وعلى رأسهم الصين، ما دفع واشنطن إلى إعادة تنشيط تحالفها مع الرياض. لذلك كثف المسؤولون الأميركيون خلال الأيام الأخيرة زياراتهم واتصالاتهم بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لبحث ملفات إيران وحرب اليمن.
وفي 13 و14 أبريل الجاري زار منسق مجلس الأمن القومي الأميركي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك والمنسق الرئاسي الخاص للبنية التحتية وأمن الطاقة آموس هوكستين السعودية، وانضم إليهما المبعوث الخاص لليمن تيم ليندركينغ.
مرحلة جديدة
بحث الوفد الأميركي مع ولي العهد السعودي “عدة مواضيع، من بينها إيران والخطوات الرامية إلى إنهاء الحرب في اليمن”. وفي 12 أبريل استقبل ولي العهد السعودي مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، أي قبل يوم من وصول الوفد الأميركي إلى البلاد، واستعرض المسؤولان “الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب في اليمن”، وفق موقع البيت الأبيض.
ولم يقتصر الأمر على المسؤولين الأميركيين، بل إن السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام التقى قبل ذلك بيوم واحد ولي العهد السعودي في جدة لبحث العلاقات بين البلدين.
والملفت أن غراهام، الذي كانت له مواقف متشددة تجاه السعودية، وصف لقاءه مع الأمير محمد بن سلمان بأنه كان “بنّاء ودافئا”.
ففي ظرف أربعة أيام استقبل الأمير محمد بن سلمان خمسة ممثلين أميركيين عن البيت الأبيض والكونغرس، ما يمثل إنزالا دبلوماسيا لتدارك تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة لصالح الصين.
نجاح الصين في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران شكل صدمة لواشنطن، التي لطالما اعتبرت نفسها الضامن التاريخي لأمن دول الخليج
والواضح أن واشنطن لا تريد أن يفلت الملف اليمني من بين أيديها لصالح بكين، بعد نجاح الأخيرة في تحقيق المصالحة بين الرياض وطهران.
لذلك تلقي واشنطن بثقلها الدبلوماسي في الملف اليمني الذي يشهد تطورات بارزة أهمها نجاح صفقة تبادل الأسرى بين الحكومة الشرعية والحوثيين، وصمود الهدنة بين الجانبين.
ولكن الجانب الاقتصادي يشكل أولوية أخرى للأميركيين، الذين لا يريدون أن يستحوذ الصينيون على أغلب الصفقات مع السعودية.
والسيناتور غراهام أكثرهم وضوحا في هذا الجانب، حيث قال “أتطلع إلى العمل مع الإدارة الأميركية والجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس، لمعرفة ما إذا كان بإمكاننا الارتقاء بالعلاقات الأميركية – السعودية إلى المستوى التالي، الأمر الذي سيعود بنفع اقتصادي هائل على كلا البلدين”.
فالحديث لم يعد مقتصرا على استعادة دفء العلاقات السعودية – الأميركية كما كانت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بل شمل الانتقال إلى “المستوى التالي” المتمثل في العلاقات الاقتصادية.
ذلك أن ضغوط واشنطن على الرياض، خاصة في ملفي حقوق الإنسان وزيادة إنتاج النفط، لم تُجد نفعا مع الأمير محمد بن سلمان، لذلك تغيرت لهجة الأميركيين وتحولوا إلى خطاب أكثر براغماتية.
وهذا ما أشار إليه غراهام عندما أعرب عن تقديره “العميق” للمملكة لشرائها ما قيمته 37 مليار دولار من طائرات بوينغ 787، المصنوعة في ولاية كارولينا الجنوبية، لشركة الطيران السعودية الجديدة، معتبرا أن “هذه الاستثمارات هامة جدا”. وهذا أحد مؤشرات نجاح سياسة السعودية بتنويع الشركاء دون التخلي عن التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.
المستوى التالي
فاقتراب الرياض من المعسكر الشرقي لم يخفف عن السعودية الضغوط الأميركية فقط بل دفع واشنطن إلى الركض نحوها حتى لا تفقد حليفا إستراتيجيا يمكن أن يشكل تهديدا لزعامتها الدولية إذا تحالف مع قوى معادية لها مثل الصين وروسيا.
وشكل نجاح الصين في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران صدمة لواشنطن، التي لطالما اعتبرت نفسها الضامن التاريخي لأمن دول الخليج. وهذه المصالحة لن تعزز النفوذ الصيني في الخليج فقط، وإنما ستجعل السعودية أقل احتياجا إلى الولايات المتحدة في حماية أمنها القومي.
فالرياض شككت في التزام واشنطن بضمان أمنها عقب تعرض منشآتها النفطية لهجوم بطائرات مسيرة عام 2022، ناهيك عن عدم تعاونها في تزويدها بالأسلحة والذخائر في حرب اليمن.
لذلك بدأت السعودية تنحو نحو الشرق، من خلال موافقة مجلس الوزراء على الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين، وتقدمها بطلب الانضمام إلى منظمة بريكس التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتقدم نفسها بديلا عن مجموعة السبع التي تضم الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وكندا.
المسؤولون الأميركيون كثفوا زياراتهم واتصالاتهم بالأمير محمد بن سلمان لبحث ملفات إيران وحرب اليمن
وليس ذلك فقط، فالسعودية تلوّح بتسعير جزء من صادراتها النفطية باليوان الصيني، ما يهدد هيمنة الدولار الأميركي كعملة تداول تجاري واحتياط، بعدما لعبت دورا في استقراره وعدم انهياره في العام 1971، عقب تخلي واشنطن عن ربطه بالذهب، وتسعير السعودية ودول الخليج للنفط بالدولار.
ولم تكتف السعودية بلعب كل هذه الأوراق للي ذراع الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تعهد في حملته الانتخابية بجعلها دولة منبوذة، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما استقبلت وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في مدينة جدة، ضمن مساعي إعادة دمشق إلى الجامعة العربية، على العكس من رغبة واشنطن، ناهيك عن رفض السعودية الخضوع إلى الضغوط الأميركية لزيادة إنتاج النفط بدل تقليصه، وتهديدها بفرض عقوبات كاتسا (قانون أعداء الولايات المتحدة).
ومنحت هذه المواقفُ السعوديةَ المزيد من الاستقلالية عن الولايات المتحدة، التي لم تتمكن من عزلها دوليا، بفضل تمتين الرياض علاقاتها مع الصين وتعاونها مع روسيا خاصة ضمن “أوبك+”، وسعيها لتصفير أزماتها مع إيران والحوثيين والنظام السوري وقطر، وتعزيز علاقاتها مع تركيا والجزائر.
فالخروج من مستنقع حرب اليمن من شأنه أن يسمح للسعودية بتركيز جهودها على تحقيق “رؤية 2030″، وبناء مدن المستقبل، والتحرر من التبعية للنفط، بهدف الوصول إلى تريليون ريال (266 مليار دولار) صادرات غير نفطية بحلول عام 2030.
والولايات المتحدة ليست مستعدة للتفريط في صفقات ضخمة توفرها السوق السعودية، التي حققت العام الماضي 326 مليار دولار عائدات نفطية، و71 مليار دولار صادرات غير نفطية، وفائضا تجاريا بنحو 222 مليار دولار، ونسبة نمو هي الأكبر بين دول مجموعة العشرين (8.7 في المئة).
ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر 2024، يحتاج بايدن إلى صفقات اقتصادية مع السعودية لاحتواء التضخم في البلاد وتجنب الوقوع في بؤرة الركود الاقتصادي، ورفع معدل الوظائف، وهي الملفات الأبرز التي تهم الناخب الأميركي أكثر من عزل السعودية.