من بين الفلسفات السياسية التي تتناول أصول تأسيس الدول والحكومات، ساهمت نظرية العقد الاجتماعي في تشكيل الوعي السياسي الحديث في فهم العلاقة بين السلطة والشعب. وقد أرسى مفهوم العقد الاجتماعي، القائل بأن الحكومات تنشأ من خلال اتفاق طوعي بين الأفراد الأحرار لضمان الأمن العام والسلامة المجتمعية، الأساس الرئيسي لتطوير المؤسسات السياسية، خاصة في الدول الديمقراطية الليبرالية. يرى المفكر والفيلسوف توماس هوبز أن الحكومة شر لا بد منه لمواجهة حالة الطبيعة عند البشر، والتي تكون فيها الحياة “منعزلة، فقيرة، بغيضة، وحشية، وقصيرة”. من هذا المنظور، تعمل الدولة التعاقدية كمزود للأمن والخدمات العامة مقابل الحصول على امتثال المواطنين للقانون وتنازلهم عن بعض حرياتهم الطبيعية. ومع ذلك، فان مفهوم العقد الاجتماعي هو بعيد كل البعد عن الواقع المعاش في غالبية الدول الاستبدادية، حيث تكاد تنعدم الفوائد المرجوة من وجود الدولة لدى المواطن. على العكس تماما، اقتصر دور الدولة على تكريس الممارسات الاستغلالية والقسرية التي تخدم المصالح الخاصة للنخب القوية، مثل السياسيين، أو الجيش أو رجال الأعمال أو غيرهم من الجهات المؤثرة، على حساب عامة الشعب.
يكتسب مفهوم الدولة المفترسة (predatory state) أهمية خاصة في الدول الهشة والفاشلة، حيث يعكس بدقة ما يحدث في العديد من هذه الدول، ومنها اليمن، حيث يولي الحكام الأولوية لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال استغلال الموارد العامة، متجاهلين توفير الخدمات للمواطنين. تتميز هذه الدول المفترسة بثلاث سمات أساسية تُظهرها النخب الحاكمة في سلوكها السياسي والاداري. أولاً، تستغل النخب السياسية في هذه الدول موارد الدولة لتحقيق مكاسب شخصية، حيث تتعامل مع الأصول العامة كما لو كانت ممتلكات خاصة، بدلاً من تسخيرها للصالح العام. ثانيا، تسعى النخب الحاكمة الى السيطرة على مؤسسات الدولة وإضعافها، مثل القوات المسلحة والقضاء، حتى تتمكن من الاستمرار في خدمة مصالحها الفئوية الضيقة دون غالبية الناس. ثالثا، تركز النخب المفترسة على المكاسب قصيرة الأجل والربح السريع على حساب التنمية المجتمعية، ما يفسر النقص الواضح في الاستثمار في قطاعات حيوية كالتعليم والبنية التحتية والرعاية الصحية وغيرها من القطاعات ذات التأثير طويل المدى. نتيجة لذلك، يؤدي هذا الوضع إلى ترسيخ الفساد وإضعاف مؤسسات الدولة واستمرار دورات الاستغلال، مما يجعل الدولة غير قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها أو الحفاظ على مستوى الحد الأدنى من الرفاهية العامة.
مظاهر السلوك الافتراسي في اليمن
اتسم التاريخ السياسي الحديث لليمن بسيطرة النخب الحاكمة التي مارست سلوكيات افتراسية استغلالية عمقت من معاناة الشعب وأعاقت تطور الدولة. حتى في فترات الاستقرار النسبي، مثل تلك التي شهدتها فترة حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، أدى الفساد الحكومي وسوء إدارة المؤسسات العامة إلى خلق حالة من الإحباط الواسع بين الشعب. ومع ذلك، منذ اندلاع الصراع عام 2014، أوجدت الحرب ظروفا مواتية لمختلف الجهات الفاعلة لتعميق هذه السلوكيات الاستغلالية إلى مستويات غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن المحللين للشأن اليمني عادة ما يركزون على إشكالية تشرذم وانقسام السلطة ووجود نظامين متوازيين للحكم في صنعاء وعدن باعتبارها التحدي الرئيسي الذي يواجه اليمن، إلا أنه ينبغي أن نشعر بقلق أكبر تجاه انتشار السلوكيات الاستغلالية التي يمارسها أولئك المسيطرون على مؤسسات الدولة ومواردها. وفي حين أن التاريخ شهد تفكك العديد من الدول والإمبراطوريات الكبرى، إلا أن هذا لم يترك بالضرورة تأثيرا سلبيا على نوعية الحكم والخدمات والاستقرار الاقتصادي للمواطنين. من هنا، تبرز الحاجة لتكثيف الجهود لمعالجة المشكلة الأعمق المتمثلة في انتشار السلوك الاستغلالي عند بعض النخب، ابتداء من تكثيف النقاشات والمداولات السياسية في الفضاء العام.
يجسد الحوثيون أبرز حالة للسلوك الاستغلالي بين مختلف القوى السياسية في البلاد. فمنذ اقتحامهم للعاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، سعت الجماعة بشكل نشط إلى فرض سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة وإخضاعها بما يتناسب مع مصالحها السياسية والأيديولوجية. ومن بين المؤسسات البارزة التي سيطر عليها الحوثيون، يعد البنك المركزي اليمني في صنعاء أحد أهم الأدوات التي مكنتهم من التحكم بالسياسة النقدية في مناطق نفوذهم، والاستحواذ على عائدات الدولة وتوجيهها لتمويل جهودهم الحربية. وعلى الرغم من هذه السيطرة، لم يدفع الحوثيون رواتب موظفي القطاع العام بانتظام، واكتفوا بصرف مبالغ جزئية على نحو متقطع. في الوقت ذاته، واصلت الجماعة تخريب الموارد الاقتصادية الوطنية الواقعة خارج سيطرتها، مستهدفة موانئ النفط في الجنوب، وآخرها ميناء الضبة في محافظة حضرموت في نوفمبر 2022، مما أدى لتقليص عائدات الحكومة المعترف بها دوليًا وتفاقم المعاناة الاقتصادية للمواطنين.
ولهدف تعزيز سيطرتهم على المؤسسات السياسية والموارد الاقتصادية، اعتمد الحوثيون على ثلاث استراتيجيات رئيسية. أولا، تم فرض إتاوات باهظة على الشركات والأعمال التجارية بما فيها التحويلات المالية والجمارك، إلى جانب استحداث رسوم جديدة شملت حتى المدارس الحكومية، مما وفر إيرادات إضافية لتمويل انشطتهم وتعزيز قبضتهم على السكان المحليين. ثانيا، تقوم الجماعة بمصادرة الممتلكات الخاصة والاستيلاء على منازل المعارضين السياسيين ومن يرفضون التعاون معها. ثالثا، يقوم الحوثيون بالتلاعب في ملف المساعدات الإنسانية من خلال الاختلاسات والتدخل في عملية التوزيع، مستخدمين ذلك كوسيلة لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين.
لا شك أن الحوثيين ليسوا الجهة الوحيدة التي تمارس السلوك الاستغلالي في اليمن، حيث تتغلل هذه الممارسات المدمرة بعمق في النخبة السياسية بشكل عام، مما تسبب في اهدار عائدات الدولة المحدودة على شبكات المحسوبية وشراء الولاءات، بدلا من تحسين الخدمات العامة. وقد أشار تقرير لجنة الخبراء في الأمم المتحدة إلى تورط مسؤولين مرتبطين بالحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في غسيل الأموال والفساد، بما في ذلك تحويل 423 مليون دولار من وديعة سعودية إلى تجار، مما أثر سلبا على قدرة وصول اليمنيين إلى الإمشدادات الغذائية. كما تضمن التقرير ممارسات استغلالية أخرى، مثل التلاعب بسعر الصرف لتحقيق مكاسب سريعة والمعاملة التفضيلية لشركات معينة مثل مجموعة هائل سعيد أنعم، إضافة إلى الاستخدام غير القانوني لموارد الدولة لأغراض خاصة. أيضا يقوم بعض الجنود في نقاط التفتيش والموانئ الحكومية بفرض رسوما غير قانونية للكسب الشخصي. ولمواجهة هذه الممارسات المتزايدة في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، أصدر عضو مجلس القيادة الرئاسي، النائب عبد الرحمن المحرمي، توجيها بمنع الجبايات غير المشروعة التي تفرضها بعض النقاط الأمنية والعسكرية. ومع ذلك، لا يزال الوقت مبكرا لقياس مدى تأثير هذا القرار، وما إذا كان سيؤدي بالفعل إلى وقف هذه الجبايات بشكل كبير وتحقيق تغيير ملموس في الوضع الحالي.
تكلفة السلوك الاستغلالي: الصراع والانهيار الاقتصادي
يلعب السلوك الاستغلالي دورا مباشرا في زيادة التوترات والصراعات في مناطق مختلفة في اليمن. ومع اعتماد الفاعليين السياسيين، مثل الحوثيين، على العنف للسيطرة على الموارد والسكان، يزداد الاستياء بين عامة الشعب جراء هذه التصرفات، خاصة مع تحسن أوضاع النخبة المتحكمة وتدهور أحوال الشريحة الأكبر من السكان. هذا التدهور في الظروف العامة سيوسّع فجوة الثقة بين الشعب والجماعات المسيطرة على الدولة، وستدفع بالناس إلى أخذ زمام الأمور بأيديهم واللجوء إلى تأجيج الشارع للدفاع عن حقوقهم في غياب العدالة والحد الأدنى من الحكم الرشيد. بالمقابل، تلجأ السلطات إلى استخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات المناهضة لسياساتها وممارساتها، مما يزيد من حدة التوترات وتفاقم مشاعر الاستياء والعداء لهذه السلطات القائمة. في نهاية المطاف، عادة ما تتحول هذه الاحتجاجات إلى اشتباكات مسلحة تأخذ طابع التمرد المحلي، كما شهدنا في مواجهات البيضاء. لهذا يبقى خطر التصعيد مرتفعا في مناطق سيطرة كل فصيل، مع استمرار السلوكيات الاستغلالية والإضرار بمعيشة المواطنين وأمنهم.
كما يسهم افتراس الدولة بشكل مباشر في الانهيار الاقتصادي الملحوظ في جميع أنحاء اليمن، حيث يؤدي انتشار سلوكيات البحث عن الريع إلى تدمير الحوافز للنشاط الاقتصادي الإنتاجي، حيث تستفيد النخب الاستغلالية من العوائد الحكومية لتحقيق الثراء الشخصي بدلا من إعادة استثمارها في النمو الاقتصادي والتنمية المجتمعية. وترتبط هذه السلوكيات الريعية ارتباطا وثيقا بافتراس الدولة، حيث تشير إلى ممارسة الأفراد أو المجموعات لزيادة ثرواتهم الخاصة دون إنتاج قيمة حقيقية أو المساهمة في الإنتاجية الإجمالية للمجتمع. وبالتالي، أسهمت هذه الممارسات في تعميق استغلال الموارد العامة بدلا من توجيهها إلى قطاعات حيوية مثل البنية التحتية، والرعاية الصحية، والتعليم. ومع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي ونقص الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، شهدت البلاد تراجعا حادا في تقديم الخدمات العامة وتدهورا في البنية التحتية في معظم المناطق، مما فاقم الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم.
تغيير اللعبة السياسية: بعض التوصيات السياسية
من الصعب تطبيق المساءلة في ظل ظروف الحرب بسبب انهيار المؤسسات واعتماد أصحاب السلطة على العنف للحفاظ على سيطرتهم، مما يترك الإدارة الحكومية العليا خالية من الرقابة. ومع دخول اليمن فترة هدنة حذرة وانخفاض وتيرة المواجهات العسكرية، بات من الضروري التركيز على تغيير قواعد اللعبة وبناء قيود مؤسسية تحد من قدرة الفاعلين في الدولة على القيام بسلوكيات استغلالية لمؤسسات الدولة. أظهرت أبحاث بيتر بوكي وروزولينو كانديلا أهمية وجود أطر دستورية تحد من السلطة السياسية المطلقة، وتوفر بيئة مستقرة تساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام. وفي السياق نفسه، تشير دراسة مرجعية لجيمس روبنسون إلى أن السلوك الاستغلالي ينتشر في المجتمعات التي تتسم بثلاث خصائص: وفرة الموارد الطبيعية، انخفاض رأس المال البشري ووجود مكاسب كبيرة للسلطة السياسية.
هذه الأبحاث يمكن أن تقدم بعض الأفكار المفيدة لتقليل محفزات السلوك الاستغلالي. على سبيل المثال، تميل النخب السياسية الاستغلالية إلى مقاومة السياسات التنموية مثل الاستثمار في التعليم، نظرا لأن هذه الفوائد طويلة الأجل لا تحقق لها مكاسب فورية. لذلك، من الضروري تطوير أساليب جديدة تجعل مصالح النخب السياسية أكثر استجابة للصالح العام، عبر إبراز الفوائد المباشرة لبناء مؤسسات داعمة لأهداف التنمية الوطنية بدلا من ممارسات الاستغلال، وتوضيح كيف أنّ الاستثمار في القطاعات الإنتاجية سيعزز سلطتهم مع ضمان سلامة المجتمع.
أيضا يلعب المجتمع الإقليمي والدولي دورا سلبيا في تشجيع السلوك الاستغلالي للنخب الحاكمة، فقد أتاح الدعم الخارجي الكبير الذي تلقته الأنظمة اليمنية المتعاقبة من حلفائها الإقليميين والدوليين تقوية سلطة هذه النخب دون الالتزام بتلبية احتياجات المواطنين ومعيشتهم. نتيجة لهذا الدعم الخارجي الكبير، تشعر النخب السياسية المحلية بأنها محصنة من المساءلة الشعبية، حيث يؤدي اعتمادها على المساعدات الأجنبية إلى تقليل حاجتها للشرعية المحلية. وقد برزت هذه الديناميكية بشكل أوضح خلال فترة الحرب الحالية، حيث تعتمد الحكومة اليمنية اعتمادا كبيرا على الدعم السعودي، إلى حد قلل من قدرتها على التعامل مع التدخلات السعودية وتأثيرها في الشؤون الداخلية اليمنية. وعلى الرغم من أنّ الدول القوية لن تتوقف عن ممارسة نفوذها على جيرانها الأضعف، إلا إنه يمكننا على الأقل الدعوة إلى ربط المساعدات الدولية الرسمية بإصلاحات مؤسسية محددة تركز على التنمية طويلة المدى بدلا تسخيرها سياسيا لتقوية النخب الاستغلالية. لهذا لن يستفيد اليمنيون من المساعدات الخارجية الهائلة إلا إذا ارتبطت بتحسينات ملموسة في مجالات الحكم الرشيد، والتعليم، وتنمية رأس المال البشري وغيرها من القطاعات التي تخدم المواطن العادي وليس فئات نخبوية معينة.
ملاحظة ختامية
في الختام، نود التأكيد على أنه ما دامت قواعد اللعبة السياسية لم تتغير، سيستمر السلوك الاستغلالي للنخب السياسية كصفة مميزة للحكم والسياسة في اليمن. ورغم أن بعض الجهات الفاعلة تظهر سلوكا أكثر استغلالا لمؤسسات الدولة مقارنة بغيرها، فإن تغيير الحكومات والأنظمة لن يجلب أي تغيير إيجابي ملموس في نوعية الحكم والخدمات العامة. إذ أن بنية النظام السياسي ما زالت قائمة على مكافأة السلوك الاستغلالي، مما يعزز من تبني هذا السلوك من قبل الأجيال الجديدة من السياسيين والفاعلين.
إنّ كسر هذه الحلقة المفرغة يتطلب تغييرات جوهرية في القواعد المؤسسية للنظام السياسي، وتقييد السلطة السياسية، وتمكين الطبقة المهنية المتعلمة كقوى موازنة قادرة على حشد الجماهير لمواجهة ممارسات النخب الاستغلالية. ومع مرور الوقت وتزايد هذا الضغط، ستدرك النخب السياسية أن بقاءها السياسي ومصالحها مرهونان بالاستقرار والتنمية المستدامة للبلاد، مما سيدفعها نحو التخلي عن السلوك الاستغلالي والاستثمار في ازدهار اليمن كما هو الحال في بقية الدول التنموية التنافسية.
علاء محسن باحث مقيم لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات. باحث دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة يوتا ومتخصص في سياسات الشرق الأوسط