في البدء لا بد من الإقرار بأن الوضع السياسي والاجتماعي والإنساني على أرض الجنوب، أو ما يسمى بـ”المناطق المحررة”، يمر اليوم بأسوأ مراحل التدهور وقابلية الانهيار في التاريخ الحديث وربما الوسيط والقديم، وأن ملامح قابلية الانهيار هذه، تتجسد في مظاهر سياسية ومعيشية وخدمية واقتصادية وإنسانية عامة لم تعد اليوم عصية على الرؤية لكل ذي عينين.
هذه الوضعية المخيفة لكل من لديه ذرة من الشعور بالقلق الغريزي، فضلاً عن الشعور الاعتيادي بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية، ناهيك عن المسؤولية الوطنية والسياسية، تجعله يتفكر ويتساءل في الكيفية التي ستكون عليها الحالة بعد سنوات قصيرة وربما بعد أشهر وأسابيع إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
لن أسترسل كثيراً في الحديث عن الأزمة وقابلية الانهيار، لكنني سأتعرض لسببٍ رئيسي لكل ما يعانيه الجنوب والجنوبيون، ويكمن جوهر المشكلة في أن من يتحكم في مصير الجنوب والجنوبيين ويدير شؤونهم، هو مراكز قوى لا علاقة لها بالجنوب، بل ومن ألدِّ أعداء الجنوب الذين دخلوا الجنوب غزاةً فاتحين منذ نحو ثلاثة عقود ، ثم بعد أن تم دحرهم بقوة المواجهة الجنوبية السلمية والمسلحة ، عادوا إلى احتلال الجنوب بالتوافق مع الأشقاء في دول التحالف العربي من خلال ما يسمى بـ”مخرجات مشاورات الرياض”، التي أثبتت التجربة العملية أنها لا تختلف عن “المبادرة الخليجية” و”اتفاق الرياض” وغيرها من المحاولات الترقيعية التي صُمِّمَت معملياً من قبل عقول متعالية عن الوقائع وتداخلاتها، وفي غرف معزولة عن الواقع وتعقيداته وبحبر قابل للتبخر، فتبخر الحبر وبقيت الاوراق خالية من أي محتوى.
مشاورات الرياض انتجت شراكة هي من أغرب الشراكات في العالم، وتتمثل في جمع مجموعة من القوى المتعادية والمتخاصمة حد قابلية التناحر في خلطة واحدة سميت بـ”مجلس القيادة الرئاسي”، لكن مهمة هذه الخلطة هي إدارة أرض وشعب تضمر لهما العداء وخاضت ضدهما الحروب العديدة، ومثل خيبة “المبادرة الخليجية” التي كلَّفت رئيساً هو الرئيس عبد ربه منصور هادي ليحكم شعبًا غير شعبه على أرضٍ ليست أرضَه، كلفت مخرجات الرياض رئيساً هو الدكتور رشاد العليمي، ليحكم شعباً غير شعبه على أرضٍ ليست أرضه، وسيكون من الغباء توقع نتائج مختلفة عن نتائج المبادرة الخليجية التي خابت في هدفها ولم يحصد منها اليمنيون في الشعبين، جنوباً وشمالاً، سوى ما هو حاصل اليوم من حروب وخرائب ودمار وويلات لها أول ولا يبدو لها آخر.
وهنا تجب مراعاة الفارق بين الرئيسين المقصودين وعلاقتهما بالشعبين المعنيين، فالرئيس هادي لم يشارك في أي حرب عدوانية على الشمال ولم يقتل لا مواطناً ولا حتى حيواناً شمالياً، ولم ينهب شبراً واحداً من الأرض الشمالية، بل لقد كان قائداً في إحدى حروب الشمال على الجنوب ، أما رشاد العليمي وشركاؤه فجميعهم (ومن خلال كياناتهم السياسية ومكوناتهم العسكرية) فقد دخلوا الجنوب غزاةً وعاثوا في أرض الجنوب فساداً وفي ثرواته وموارده سلباً ونهباً، وأمعنوا في أهله تهميشاً وازدراءً وقتلاً وتنكيلاً، واليوم يعودون ليحكموا هذا الشعب وأرضه وثرواته في لوحة غريبة لا يستطيع رسمها أكثر السرياليين خيالاً في العالم.
هذه الحالة المفارقة (البارادوكسالية)، لم تشهدها بلد في العالم إلا الجنوب، الذي يكتوي اليوم بنيران مخرجاتها الحتمية المأساوية والمؤلمة بحقٍّ.
نحن نعلم جميعاً أن هذه الحصيلة الغرائبية (السريالية) ليست من صنع الأطراف اليمنية وحدها، بل هي معدة ربما بدون حتى استشارة اليمنيين، في الشمال والجنوب على السواء، وربما جرى إعدادها بحسن نية من قبل الأشقاء الذين أعدُّوها، لكن على الأشقاء الذين طبخوا هذه الخلطة أن يراجعوا النتائج بعد أن أثبتت الصفقة فشلها، وليس عيباً الاعتراف بالفشل والبحث عن بديل آخر أكثر جدوى وأقل وطأة على حياة الجنوبيين الذين لم يعد لديهم من الطاقة ما يتحمل الكثير من الأعباء والعذابات، لكن هذه الصفقة (البديلة المفترضة) يجب أن تكون هذه المرة من صنع المعنيين أنفسهم، وأعني هنا أصحاب الأرض والشعب والثروة، وهم الجنوبيون وقيادتهم السياسية.
المجلس الانتقالي الجنوبي، الشريك الجنوبي الرئيسي في هذه الصفقة يقف اليوم في وضعٍ لا يُحْسَد عليه، فلا هو استطاع من خلال هذه الصفقة أن يؤمِّن الطريق نحو الحل العادل للقضية الجنوبية بما يرتضيه الشعب الجنوبي، ولا هو تمكن من ممارسة سلطة حقيقية على الأرض الجنوبية باعتباره المفوض من قبل الشعب لانتزاع هذه السلطة وممارستها(ولو في إطار الشراكة الخائبة) ولا هو تمكن حتى من تخفيف العذابات ورفع المعانات عن قاعدته الشعبية التي أوصلته إلى ما هو عليه، من مستوى وحضور إقليمي ودولي، ولا هو استطاع أن يخرج من ورطة الشراكة ليقترب من قاعدته الجماهيرية التي رهنت مصيرها بمواقفه وسياساته وتكتيكاته.
بقاء المجلس الانتقالي (الذي ما يزال قطاع واسع من الطبقة السياسية والثقافية الجنوبية يراهن عليه لتأمين مستقبل الجنوب)، بقاؤه على هذه الحالة المزدوجة، بين شريك في الحكم لا يحكم شيئاً، ومعارضٍ يعارض سلطة هو جزء منها، يكلف المجلس الانتقالي كثيراً سواءٌ من حيث انحسار قاعدته الجماهيرية وحاضنته الاجتماعية التي ينصرف غالبية أفرادها للبحث عن رغيف الخبز وسلة غذائية من منظمة دولية أو جمعية خيرية، أو من حيث اشتداد الحملة الإعلامية المعادية له من قبل شركائه في إدارة بلاده وأرضه والتحكم بمصائر أهل هذه الأرض وخيراتها، أو من حيث انصراف قياداته لمعالجة قضايا وترتيب أوضاع ليست لها أية علاقة بالمهمات الوطنية الكبرى التي فوضهم الشعب لتوليها والاضطلاع بها.
أخيرا نصيحة لزملائي في قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي:
أنتم الحاكم الفعلي للجنوب، بفعل الأرض والانتماء والحاضنة الاجتماعية والتفويض الشعبي، وما يستخدم من موارد الجنوب في تسيير الأمور، فأنتم أمام خيارين، وهذا ما سبق وأن قلته عدة مرات:
فإما التحكم بهذه الشراكة وأنتم تمتلكون الحق المطلق والقدرة المطلقة على القيام بهذه المهمة وتوجيه دفة الشراكة باتجاه رفع المعاناة عن الجنوبيين ووضع الخطوات الأولى على طريق الهدف النهائي من أجل استعادة الدولة الجنوبية؛
وإما العودة إلى الشعب وترك الأشقاء من الشركاء الشماليين ليتحملوا المسؤولية أمام الشعب الجنوبي وحينها ستكون المواجهة بين الشعب وبين سارقي لقمته، ولن يكون موقعكم إلا مع حاضنتكم الجماهيرية وليس من اللائق أن لا تكونوا كذلك.