منذ إعلان الحوثيين إعادة وبدء استهداف السفن في البحر الأحمر نصرةً لغزة، تحوّل الصراع في اليمن من كونه نزاعًا داخليًا إلى ساحة مواجهة إقليمية ودولية. اليوم، مع التصعيد الأميركي الجديد، وتهديد ترامب باستخدام “القوة الساحقة”، تدخل المواجهة مرحلة جديدة قد تعيد تشكيل التوازنات في المنطقة.
بداية القصة: أو الحوثيون واستهداف إسرائيل: بين الرمزية العسكرية والمكاسب الاستراتيجية
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلن الحوثيون أنهم سيستخدمون سلاحهم الصاروخي والطائرات المسيّرة لنصرة الفلسطينيين، وبدأوا فعليًا في استهداف إسرائيل من العمق اليمني، في خطوة لم تكن مجرد عمل دعائي، بل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تعريف دورهم في الصراع الإقليمي.
فمن الناحية العسكرية البحتة، لم تحقق ضربات الحوثيين خسائر استراتيجية كبيرة داخل إسرائيل، حيث أن معظم الصواريخ والمسيّرات إما تم اعتراضها أو لم تصل إلى أهداف حيوية. لكن الأهمية الحقيقية لهذه الضربات ليست في نتائجها المباشرة، بل في تداعياتها الجيوسياسية.
وكان الحوثيون يستهدفون من وراء ذلك: 1. تثبيت أنفسهم كقوة إقليمية في محور المقاومة: الحوثيون، رغم أنهم لاعب غير حكومي، يريدون أن يُنظر إليهم كدولة فعلية لديها قرار سيادي يمكنها التأثير في معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي. استهداف إسرائيل يجعلهم في قلب الأحداث وليس مجرد ميليشيا محلية محصورة في اليمن. 2. تحقيق شرعية شعبية وإسلامية أوسع: في نظر الشارع العربي والإسلامي، كل من يستهدف إسرائيل يحظى بشرعية شعبية تلقائية. الحوثيون يدركون أن الحرب الإعلامية لا تقل أهمية عن المعارك الميدانية، لذا فإن كل صاروخ يُطلق نحو تل أبيب هو رصيد سياسي إضافي لهم في مواجهة خصومهم المحليين والدوليين. 3. إرباك إسرائيل واستنزاف منظومتها الدفاعية: رغم أن الضربات لم تكن مدمرة، إلا أنها أجبرت إسرائيل على تحريك منظومات دفاعها الجوية بعيدًا عن جبهات القتال الرئيسية، مما خلق ضغطًا لوجستيًا وأمنيًا إضافيًا. لكن، ورغم الزخم الإعلامي لهذه الهجمات، إلا أن الحوثيين لم تكن لديهم القدرة على تغيير ميزان الحرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. فلا هم محاذون لإسرائيل جغرافيًا مثل حزب الله، ولا يمتلكون القدرات الجوية المتطورة التي يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا. لذلك، فإن التأثير الفعلي لهذه الهجمات يظل في بعده السياسي أكثر من كونه عاملًا حاسمًا في الحرب.
وماذا عن الخيار الآخر؛ سياسة استهداف السفن هل هي ناجحة؟ يدرك الحوثيون أنهم لا يستطيعون مواجهة الولايات المتحدة عسكريًا بشكل مباشر، لكنهم يلعبون في مساحة تجعل من المستحيل تجاهلهم. إغلاق البحر الأحمر جزئيًا، وعرقلة الملاحة في باب المندب، ورفع تكلفة التجارة العالمية، كلها أدوات تمنحهم نفوذًا غير متكافئ، حيث أن كل صاروخ أو طائرة مسيّرة تُطلق نحو سفينة، تُترجم إلى اضطراب في الأسواق العالمية وضغوط اقتصادية على الغرب.
وتأثيرها تعتمد على المدى الزمني: • على المدى القصير، نجح الحوثيون في فرض أنفسهم كقوة لا يمكن تجاوزها في معادلة الأمن البحري. • على المدى الطويل، التحدي الرئيسي هو كيف يحافظون على هذا النفوذ دون دفع ثمن استراتيجي باهظ؟ فالتاريخ يُظهر أن القوى التي تلعب بورقة “الإزعاج الاستراتيجي” دون مظلة دولية، غالبًا ما تجد نفسها أمام تصعيد عسكري غير محسوب العواقب، كما حدث مع العراق بعد استهداف ناقلات النفط في الثمانينيات، أو ليبيا بعد تدخلها في البحر المتوسط. كما أنّ تصعيد ترامب الليلة ضد الحوثيين يعكس تحولًا عن سياسة بايدن “المترددة”، حيث يتحدث الرجل عن استخدام قوة مميتة ساحقة، في إشارة واضحة إلى نهج أكثر عدوانية قد يشمل اغتيالات، استهدافات نوعية، وربما ضربات تكتيكية لإضعاف القدرات الصاروخية للحوثيين.
لكن السؤال الأهم: هل تستطيع واشنطن تحييد الحوثيين بالكامل؟ • عسكريًا، الغارات الجوية ستُضعف الحوثيين لكنها لن تُنهيهم. • استراتيجيًا، التوازن في اليمن ليس أمريكيًا-حوثيًا فقط، بل يرتبط بإيران، وبمواقف دول الخليج، وحتى بروسيا والصين، التي تراقب المشهد عن كثب
لجميع ما سبق؛ هناك ثلاثة عوامل رئيسية ستحدد كيف ستتطور المواجهة: 1. قدرة الحوثيين على الصمود أمام الضربات الجوية، ومدى استعدادهم لمواصلة استهداف السفن رغم التهديدات الأميركية. 2. مدى التصعيد الإيراني: هل ستتدخل طهران بشكل أعمق، أم أنها ستكتفي بالدعم اللوجستي والسياسي؟ 3. كيف سيتفاعل الاقتصاد العالمي؟: إذا استمرت الأزمة في رفع تكاليف النقل البحري وزادت الضغوط على شركات التأمين والتجارة، فقد تضطر واشنطن لإيجاد مخرج سياسي لا عسكري.
الخلاصة: هذه معركة نفوذ لا تُحسم بالقوة وحدها: فالحوثيون ليسوا مجرد ميليشيا محلية، بل لاعب إقليمي يستخدم موقع اليمن الاستراتيجي كسلاح سياسي. وواشنطن، رغم تهديدات ترامب، تدرك أن إنهاء الحوثيين ليس ممكنًا بضربات جوية فقط. لذلك، المشهد القادم ليس مجرد حرب جوية عابرة، بل إعادة صياغة لمعادلات القوة في البحر الأحمر والخليج، حيث لا يمكن لأي طرف أن يخرج منتصرًا بالكامل دون إعادة رسم قواعد اللعبة الجيوسياسية