إلى أولئك الذين يقارنون روسيا بأمريكا نقول: إن الولايات المتحدة وحتى بريطانيا وفرنسا واليابان وكندا تعيش استقراراً سياسياً واقتصادياً منذ 1945 بينما روسيا لم تبدأ نهضتها إلا مع مطلع الألفية الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يشكل سدس مساحة الأرض… وبرغم الصدمة التاريخية لحرب كونية وانهيار اقتصادي مروع ولدت روسيا البوتينية كقوة صاعدة ذات عقيدة جيوسياسية تسعى إلى كسر الهيمنة الغربية وتقديم نفسها مظلة وملاذاً لدول الجنوب العالمي.
روسيا الحديثة التي لا يتجاوز عمرها ربع قرن، واجهت محاولات الاحتواء والتدخل وخاضت اربع حروب كبرى وصمدت أمام أعنف موجات العقوبات الغربية والحصار المالي والتكنولوجي…ومع ذلك فقد أثبت اقتصادها مرونةً استثنائية وحققت سياستها الخارجية اختراقات لافتة في ميادين الأمن والدبلوماسية والطاقة…لقد انتصرت روسيا في الحرب ضد منظومة الهيمنة الغربية وأكدت أن العقوبات لا تكسر الإرادة وأن الاستقلال الاستراتيجي أثمن من إغراءات الاندماج في النظام الليبرالي الغربي…واليوم وبفعل تراكم الخبرات وتطوير منظوماتها التسليحية باتت روسيا تمتلك أقوى جيش في العالم الجيش الأول عسكرياً، بقدرات ردع استراتيجية تجعلها رأس الحربة في إعادة صياغة التوازنات الدولية وصناعة ملامح النظام العالمي الجديد.
الرئيس بوتين القيصر الجديد مالئ الدنيا وصانع المعادلات الدولية، أربك استراتيجيات الغرب وأربك أسواقه واقتصاداته..لقد سطر اسمه كأعظم قائد سياسي واقتصادي وعسكري، وقاد بلاده من الانهيار إلى موقع الدولة المقررة في النظام العالمي..حين زج بقواته في أوكرانيا في “العملية الخاصة “لم يكن القرار مجرد حرب إقليمية ؛ بل إعلاناً عن انهيار القطبية الغربية وولادة نظام متعدد الأقطاب.
ومع أن الغرب بكل ثقله الأطلسي وتكتلاته الاقتصادية اصطف خلف أوكرانيا، فإن روسيا عادت إلى المسرح العالمي مسنودةً بتراثها المركب: الأرثوذكسية، والقيصرية، والشيوعية، والهوية الحضارية الإسلامية، إضافة إلى ترسانتها النووية التي تجعلها فاعلاً لا يُستثنى من أي معادلة.
لقد قالها بوتين في ميونخ عام 2008 بوضوحٍ لا لبس فيه: إن العالم لا يمكن أن يبقى أسير قطب واحد يحتكر القرار ويغزو السيادة متى شاء.. كانت تلك اللحظة إعلان التأسيس لخطاب التعددية القطبية ودعوة صريحة لإعادة التوازن الدولي على أسس العدالة والكرامة والسيادة الحقيقية للشعوب. واليوم يثبت التاريخ أن روسيا البوتينية ليست منافساً عابراً في ميدان الجغرافيا السياسية؛ بل ركيزة جوهرية في صياغة النظام العالمي الجديد.
إن انتصار روسيا وصمودها وتماسكها ليس شأناً روسياً داخلياً فحسب؛ بل هو مصلحة استراتيجية مشتركة لكل شعوب الأرض.. فقد خاض الرئيس بوتين معركته – العملية الخاصة على الساحة الأوكرانية – دفاعاً عن أمن روسيا القومي ومصالحها الوطنية،، لكنه في الجوهر خاضها أيضاً باسم دول الجنوب العالمي التي تتوق إلى نظام دولي أكثر عدلاً وأقل خضوعاً لهيمنة الغرب. إن هذا الصمود والانتصار يعكس كسر الغطرسة والاستعلاء الغربي القائم على ذهنية استعمارية واستفزازية ويمنح شعوب العالم أملاً في أن زمن الإملاءات والوصاية قد انتهى.
ولذلك فإن فرحة النصر الروسي لا تقتصر على حلفائه فحسب؛ بل تمتد حتى إلى شعوبٍ داخل المعسكر الغربي ذاته ممن يكتوون بنار أزماته الاقتصادية وتبعات سياساته الأحادية… فلم يسلم حتى حلفاء الغرب وأصدقاؤه من غطرسته وهيمنته؛ بل كانوا أكثر من دفعوا كلفة ولائه وارتباطه بسياسات واشنطن وبروكسل…وهكذا أثبتت التجربة أن الغرب لا يتعامل مع شركائه بنديةأو احترام متبادل ؛بل بذهنية استعمارية واستعلاء استراتيجي لا يراعي مصالح الآخرين..
لقد أكدت روسيا أن كسر الهيمنة الغربية انتصار مشترك للبشرية جمعاء وأن ولادة عالم متعدد الأقطاب ليست مجرد حلم مؤجل ؛ بل حقيقة سياسية واقتصادية تتشكل أمام أعيننا.. ولم تكن موسكو وحدها في هذا المسار؛ بل أثبتت الصين أيضاً أنها تتعامل بندية كاملة مع الحلفاء الاصدقاء وترسم مع روسيا محوراً استراتيجياً جديداً يقوم على الشراكة المتوازنة.. والندية السياسية..والعدالة الاقتصادية.. ليؤسس معاً لبنية دولية جديدة تُعيد الاعتبار لسيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها.