في لحظات التحول الوطني، يبرز سؤال مصيري أي عقلية تليق بمسؤولية قيادة المستقبل في البلدان العربية التي تعيش صراع دموي ؟ هل هي عقلية البناء المؤسسي، التي تدرك أن الحكم هندسة دقيقة للممكن بل تتجاوز الممكن من خلال الاستفادة منه لجعل اللا ممكن ممكنا”، أم عقلية الصراع والصوت العالي، التي تختزل الوطن في خطاب انفعالي؟
ليس الفرق بينهما مجرد تباين في الرؤى، بل هو الفرق بين من يرى الوطن مشروعاً مستمراً تُورَّث مسؤولياته بين الأجيال، ومن يحوّله إلى ساحة للمدح والذم، تذهب طاقاتها هباء.
هندسة المستقبل المستدام
عقلية البناء هذه العقليةوتشبه “مهندس الأمة” الذي يبني بمنطق وروية.
لا يضع حجراً إلا على أسس متينة، لأنه يدرك أن الإخفاق في القيادة ليس هزيمة شخصية، بل انهيارٌ للمشروع الوطني بكامله.
هي عقلية تؤمن بأن الدولة ليست منصةً لشخص، بل هي منظومة متكاملة من المؤسسات والقوانين والكفاءات.
تضع الكفاءة فوق الانتماء، والنزاهة فوق المحسوبية، والرؤية طويلة المدى فوق المكاسب الآنية.
إدارتها تشبه “نهر الدولة” الجاري اي نظامٌ متدفقٌ هادئ، يروي ولا يغرق.
وهم الحلول السريعة
في المقابل هناك عقلية الصراع ، تتصارع على الساحة هذه عقلية تخلط بين “الحماسة” و”الجدارة”، وبين “الخطاب الناري” و”الفعل المؤسسي”.
تعتقد أن شدة الصوت تعوّض عن عمق الرؤية، وأن شعارات التضحية تمنحها شيكاً على بياض من ثروات الوطن ومستقبله.
هذه العقلية تميل إلى “شخصنة” الدولة، فتصبح المؤسسات امتداداً لهويتها، والمصلحة العامة مرادفاً لأهدافها.
تقود بمنطق “التجربة والخطأ” في قضايا مصيرية، وكأنها تقود مركبة أمة بلا خارطة طريق، معتمدةً على صرخات الحماس بدلاً من بوصلة المسؤولية.
رؤية في مواجهة ضجيج
ما نعيشه في العديد من مشاربنا العربية ليس صراع أفراد، بل هو تجلٍّ لصراع ثقافات أعمق.
ثقافة تقيس برؤية العقل وإنجاز المؤسسات، وأخرى تختزل الوطن في صوت عالٍ وخطاب مشحون.
العقلية الأولى تجذب الكفاءات وتؤسس للثقة، لأنها تخلق بيئةَ تنافُسٍ شريفةً تعلو فيها المصلحة العامة.
أما الثانية فتطرد الكفاءات وتستبدل الجدارة بالولاء، فتُفرغ مؤسسات الدولة من روحها، وتجعلها هياكل بلا فعالية.
نحو ثقافة سياسية جديدة
للبناء مستقبل أفضل، لا بد من تجاوز “منطق الغنيمة” إلى “منطق المسؤولية”.
لا بد من ترسيخ ثقافة وطنية تؤمن بأن التضحية – وإن كانت محترمة – ليست بديلاً عن الكفاءة، وأن الحماسة لا تغني عن الخبرة.
المطلوب هو تأهيل النخب وبناء وعي جمعي يقدّر قيمة “الحوكمة الرشيدة” و”الدولة العميقة” التي تستمر حيث تتوقف الحكومات. يجب أن نصنع иммуناً يتعطش للكفاءة، ويقدس المؤسسية، ويرفض اختزال الوطن في أي صوت، مهما علا.
الفرق الجوهري هو بين من يبني بيت الأمة بحجرٍ فوق حجر، وبين من يستخدم حجارة البناء لإشعال نيران الصراع.
البناء يحتاج إلى مهندس، لا إلى من يشعل النيران ليضيء الطريق للجميع، فتحترق البيت والأمة معاً.