من سخريات القدر ان يفتتح الرئيس الأمريكي جو بايدن “قمة الديمقراطية” ويرصد مبلغ 700 مليون دولار لدعم ما أسماه بـ”التجدد الديمقراطي في العالم” والترويج لإجراء انتخابات نزيهة حرة، والدفاع عن حقوق الانسان، محاربة الفساد.
فمن سوء حظ الرئيس الأمريكي ان هذه الخطوة تتزامن مع الذكرى العشرين لغزو بلاده للعراق واحتلاله، واستشهاد أكثر من مليوني إنسان، وتحويله الى دولة شبه فاشلة يسودها الفساد، وتسيطر عليها الميليشيات، وكل هذا تحت عنوان نشر الديمقراطية، واجتثاث الديكتاتورية.
ربما يفيد التذكير بأن جو بايدن هذا كان من أكثر الداعمين، والمتحمسين، لعزو العراق وتقسيمه على أسس طائفية وعنصرية وعرقية، وإنهاء وجوده كدولة موحدة متماسكة كل هذا من اجل حماية دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتكريس تفوقها وهيمنتها على المنطقة بأسرها، وسرقة النفط العراقي، ولهذا كانت أول خطوة إتخذها الحاكم الأمريكي تفكيك الجيش والمؤسسات الأمنية العراقية، فالديكتاتوريات عزيزة وغالية وقريبة الى القلب إذا كانت تخدم المخططات والمصالح الامريكية.
***
أمريكا لا تنشر الديمقراطية الحقيقية التي يتمتع بها شعبها، وانما نسخة مختلفة، ودموية وتدميرية، رأيناها في أبشع صورها في العراق، وسورية، ليبيا، وأفغانستان، ديمقراطية عنوانها الأبرز سفك الدماء، والحصارات التجويعية، لشعوب عانت، وما زالت تعاني في هذه الدول، علاوة على دول أخرى مثل أفغانستان، ولبنان، وايران، وفلسطين المحتلة، وعدد كبير من دول العالم الثالث.
الرئيس بايدن الذي افتتح القمة اليوم الاربعاء، وكان بنيامين نتنياهو من أبرز نجومها، برصد 700 مليون دولار لنشر الديمقراطية وحقوق الانسان ولكنه سيضاعف هذا المبلغ ربما عشرات المرات في تدمير الدول المستهدفة، وجميعها في الشرق الأوسط، فحرب ديمقراطيته في العراق كلفت البلاد أكثر من ترليوني دولار دمارا، وتنصيب حكومات فاسدة سرقت 880 مليار دولار، وهذا رقم منظمة الشفافية ومحاربة الفساد العراقية، وأكثر من 500 الف شهيد ونصف ترليون دولار في سورية، وضعفي هذا الرقم في ليبيا، واذا كنا نعرف تكاليف حرب أفغانستان الامريكية، أي ترليون دولار حسب التقديرات شبه المستقلة، فإننا لا نعرف حتى الآن تكاليف الحصار الأمريكي المفروض على ايران منذ أربعين عاما، وتحت ذريعة نشر الديمقراطية أيضا، ولا ننسى حرب اليمن في هذه العجالة.
إنخدعنا في “فترة ما” بهذه الديمقراطية الامريكية وقيمها، وخاصة حرية التعبير والإنتصار للفقراء والمسحوقين، مثلما إنخدعنا أيضا بالصيغة الجديدة والحديثة لها، أي وسائل التواصل الاجتماعي، لنكتشف ان هذه الحريات “مغشوشة” و”مضللة”، وتُسخّر لخدمة أمريكا وحلفائها، والتجسس عليهم، خاصة دولة الاحتلال الاسرائيلي والتغطية على مجازرها، وعنصريتها، فأي مس بها يعني الحجب الفوري دون تردد في معظم الوسائل المذكورة.
حتى لا نتهم بالمبالغة، نضرب مثلا يقول ان مراسلي محطة “بي بي سي” البريطانية يواصلون عملهم بكل حرية في موسكو الديكتاتورية، والشيء نفسه يقال عن الكثير من المحطات الامريكية، بينما جرى إغلاق جميع مكاتب وسائل الاعلام الروسية، وإسكات مراسليها، وحجبها من الوصول الى المواطنين في أوروبا وامريكا.
نضرب مثلا آخر، وهو ما تواجهه منظومة “التيك توك” الصينية التي جاءت كأحد وسائل التعبير الموازية على “السوشيال ميديا” فهذه المنظومة تواجه حربا شعواء هذه الأيام في أمريكا والدول الديمقراطية الغربية تهدف الى اغلاقها، او الحد بأكبر قدر ممكن من انتشارها، خاصة في أوساط الشباب أكثر شرائح المتابعين لها، والتهمة استخدامها لأغراض صينية تجسسية، وكأن “الفيسبوك” و”التويتر” منصات نظيفة لم يثبت تجسسها، وبيع بنوك معلوماتها ومتابعيها للحكومة الامريكية، وهذه الممارسات موثقة، وباتت معروفة للجميع.
***
معظم الحكومات المدعوة من الرئيس الأمريكي للمشاركة في قمة الديمقراطية هذه، دكتاتورية، فاسدة، ولكنها تتمتع بمؤهلات أكثر أهمية وخطورة، وهي الولاء للولايات المتحدة الامريكية، والخضوع لهيمنتها واملاءاتها دون تردد، وما يؤكد هذه الحقيقة عدم دعوة تركيا التي بدأت تخرج بشكل متسارع من هذه الهيمنة، وتتجه صوب موسكو، وتقلص علاقاتها مع حلف الناتو، وشراء صفقات الأسلحة الامريكية المنزوعة الدسم، والتكنولوجيا، رغم إرثها الديمقراطي المشرف، والشيء نفسه يقال أيضا عن المملكة العربية السعودية الدولة الثانية غير المدعوة والسبب التوجه شرقا الى الصين، والتحالف نفطيا مع روسيا، وليس لأسباب ديمقراطية.
نقول للرئيس الأمريكي، وبالفم الملآن، شكرا لا نريد ديمقراطيتكم المسمومة، والملوثة، بدماء أشقائنا في العالمين العربي والإسلامي، لأنها باتت اكذوبة لم تعد تقنع أحدا بما في ذلك أطفالنا، وجاءت حربكم في أوكرانيا التي تقود العالم الى الدمار والخراب، وربما الحرب النووية لتعزز هذه القناعات وتوسع دائرتها في أوساط معظم شعوب العالم، فثمن الديكتاتورية بات أرخص بكثير من تكاليف ديمقراطيتكم الدموية الباهظة جدا التي إكتوينا، وما زلنا، من نيران حروبها وفسادها.