كيف أجبرت الصين الرئيس الفرنسي على الحديث بلغتها بثلاثة أيّام فقط؟ وماذا خلف إجلاسها لماكرون على طاولة ضخمة غريبة أبعدته عن الرئيس الصيني وأي رسائل صينيّة لأوروبا من فحص هويّة رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة وإعادتها بطائرة عاديّة؟.. بكين بقيت خلف موسكو ويد ماكرون فشلت حتى بالصورة التذكاريّة
رُغم ما اعتبرته أوساط أوروبيّة “إهانةً” صينيّة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أنهى زيارة للصين الأحد استمرّت ثلاثة أيّام، يبدو أن ماكرون العائد من بكين، ظهر وكأنه أقرب لوجهة النظر الصينيّة، فالرجل الذي ذهب يُفترض للضّغط على روسيا من خلال الصين لتغيير وجهة نظرها من الحرب الروسيّة- الأوكرانيّة، وحتى إنهاء الحرب، أكّد وهو على متن الطائرة العائدة من الصين، على ضرورة ألا تُصبح أوروبا تابعة للولايات المتحدة الأمريكيّة، وأن تتجنّب مُواجهة مُحتملة مع الصين بشأن تايوان.
الرئيس الفرنسي يتحدّث لعلّه بوجهة نظر صينيّة بحتة، وكأنه تعلّم اللغة الصينيّة بثلاثة أيّام خلال زيارته للصين، حين قال بأنه يرى بأن على دول الاتحاد الأوروبي “تقليل اعتمادها على الدولار خارج الحدود الإقليميّة”، وهذا بطبيعة الحال تصريح يُثير توجّس الولايات المتحدة تحديدًا بما يتعلّق بالدولار وتقويضه، وكبح جماح الصعود الصيني الاقتصادي، حيث مواقف ماكرون تلك وتصريحاته أتت بعد زيارته للصين، والأكثر جدلاً أو ما وصفه الأوروبيون بالانتكاسة، بأن الإعلان المُشترك الصادر عن الرئيسين الصيني والفرنسي، لم يذكر روسيا، ولم يتضمّن إدانة لاجتياحها أوكرانيا، ولا حتى دعوة لانسحاب القوات الروسيّة من أوكرانيا، وهذا كلّه لا يتوافق مع الأدبيّات الأوروبيّة للتعامل مع حرب روسيا على أوكرانيا.
وبذلك بقي الموقف الصيني من حرب روسيا على أوكرانيا ثابتاً، فهي لم تدن ولا مرّة “الغزو الروسي”، بل كانت حمّلت حلف شمال الأطلسي مسؤوليّة استفزاز موسكو، ورغم تقديم بكين نفسها طرفاً مُحايدًا في الصراع الروسي- الأوكراني- الغربي، بل وأرادت بكين التوسّط بين الأطراف المُتنازعة.
صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكيّة علّقت على زيارة ماكرون إلى بكين، بأن تلك الزيارة تُؤكّد مرّةً أخرى أن الحُلفاء لا ينظرون إلى الأمور من الزاوية نفسها.
والصين التي استقبلت الرئيس الفرنسي أو استدعته وفقاً لتوصيفاتٍ أوروبيّة، تُرسل رسائل مفادها بأن التطويق الذي تُريد واشنطن فرضه عليها من خلال حُلفائه الأوروبيين لم ينجح، ولن ينجح، وموقفنا من حرب روسيا لم ولن يتغيّر أو يتبدّل، لا بل يُمكن لهذه الدول الحليفة لواشنطن أن تتبنّى وجهات نظر ومواقف صينيّة.
وتوقّف مراقبون ليس فقط عند قراءة مضمون الزيارة، بل عند شكل الاستقبال الذي اعتبره أوروبيون مُهيناً لماكرون، حيث طاولة ضخمة غير مألوفة في الاستقبالات الرسميّة، ظهر الرئيس الصيني شي جينبينغ على رأسها، وعلى طرفيها ماكرون، ورئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين، الأمر الذي إعاد التذكير بطاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطاولته الكبيرة، والمُتباعدة عن ضيفه الفرنسي ماكرون، وسط تساؤلات حول أسباب رغبة الرئيسين الروسي والصيني إبعاد الزائر الفرنسي عنهما، وهل تعمّدا إذلاله بهذه الطريقة.
ولكن الصين أيضاً وقبل صورة الطاولة الجدليّة، استقبلت الرئيس الفرنسي بما يتوافق مع مكانتها، وهيبتها، وكان بانتظار ماكرون حفل استقبال ضخم في ساحة تيان آن من الشهيرة، وعرض عسكري، وضرب مدافع ترحيبيّة، ومع المشهد الترحيبي العام، لا يمنع هذا من بعض الرسائل من على الطاولة الضخمة التي أجلس عليها الرئيس الصيني ضيفيه.
صحيفة “التلغراف” البريطانيّة وجدت أن الرئيس الفرنسي قد أذلّ نفسه، وأذلّ الاتحاد الأوروبي.
ولعلّ الرئيس الفرنسي أرادت الصين أن تُظهر له حفاوة الاستقبال ثم رسائل الإهانة معاً، ولكن الضيفة الأخرى وهي رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة والتي جرى إجلاسها على طاولة الرئيس الصيني الضخمة هي الأخرى، فقد جرى تجاهلها تماماً وجرى استقبالها من قبل وزير البيئة الصيني، وحين عودتها اضطرّت لمُغادرة الصين في رحلة طيران عاديّة كما ذكر فلوريان فيليبو زعيم حركة “الوطنيون” الفرنسيّة، وفي ذلك رسالة حادّة من الصين للاتحاد الأوروبي، وتربية صينيّة للمسؤولة الأوروبيّة ذاتها بسبب خطابها المُعادي للصين، كما جرى فحص هُويّتها.
خبراء اقتصاديّون يرون بأن الرئيس الفرنسي بدا أنه ذاهب في مهمة تكليف لإقناع الصين بالضغط على روسيا لوقف حربها في أوكرانيا، وكون هذه المهمة فشلت، كان لماكرون أهداف أخرى للزيارة، أهمها الحفاظ على التبادل التجاري مع الصين وبلاده فرنسا، وتمثّل ذلك في حرص الرئيس الفرنسي على زيارة مُقاطعة قوانغ دونغ في الجنوب، وبرفقة عدد من كبار رجال الأعمال الفرنسيين، فالمُقاطعة المذكورة تُمثّل خُمس حجم تجارة فرنسا مع الصين (وصلت التبادلات التجاريّة بين البلدين إلى نحو 110 مليارات دولار لأوّل مرّة العام الماضي، وزادت بنسبة 15 بالمئة خلال الخمس سنوات الماضية)، وهذا ما يُفسّر حرص الرئيس ماكرون على عدم إغضاب الصين بالانتقادات السياسيّة، واستخدام لهجة التمنّي عليها لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
وحاول الرئيس إيمانويل ماكرون فيما يبدو الظهور بمظهر الواثق أو الذي نجح في مهمّته خلال زيارته للصين، وحين حانت لحظة التقاط الصورة التذكاريّة مع الرئيس الصيني وضع ماكرون يده في جيبه، ثم عاود وأخرجها، وهو مشهد عرّضه لانتقادات روّاد منصّات التواصل في بلاده، فالبعض سخر من مُحاولته الظهور بمظمر الند بجانب الرئيس الصيني والقوّة العُظمى القادمة التي ستحكم العالم، فيما أشار آخرون بأن ماكرون لا ينجح سوى بتأكيد حالة المُتردّد غير الواثق في عُقول الفرنسيين، والعالم، وذلك بعد أن عاود إخراج يده من جيبه، هذا عدا عن عدم معرفته بالبروتوكول، فيما يفرض الرئيس الصيني حُضوره وبلاده أمام العالم في مضمون وشكل استقباله لضيفه الفرنسي.