يولد الإنسان نقيا طاهراً، ولكن مع مرور الأيام ينمو ويكبر ويدلف إلى حياة جديدة لها سلوكيات وممارسات عديدة تبدأ تشكل وعيه وثقافته الخاصة به، فهناك حياة الأسرة، وهناك حياة المدرسة، وهناك حياة المجتمع، وهكذا يبدأ الإنسان في مرحلة الاكتساب، يكتسب من هنا وهناك لتتكون لديه مجموعة من السلوك والممارسات والعادات، وهذه العملية تسمى الثقافة في مفهومها السهل والمبسط.
ليست الأسرة فقط المسؤولة عن تنشئة الفرد رغم دورها الكبير في ذلك، فهناك أيضاً المدرسة والمجتمع كما أشرنا، وهناك ما هو أهم، وهو السلطة الحاكمة التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في الثلاثة المحاضن التربوية التي ذكرناها، ولا ننسى أيضاً دور المسجد فهو محضن تربوي مهم، غير أنه يقع أيضاً تحت تأثير السلطة ويصبح موجهاً من قبلها، إلا في حالات نادرة يكون حراً وملهماً.
إن الشعوب الحية التي تقارع الظلم والفساد والاستبداد، وتعمل من خلال عملية التغيير على إقامة الحق والعدل والمساواة والصلاح، هي شعوب تأثرت بثقافة معينة متحررة من القيود والأغلال والكوابح، وهذا قد يكون انعكاساً للتربية والتنشئة، وقد يكون ناتجاً عن وجود رموز أو نخب ثقافية وفكرية حرة قادرة على تشكيل الرأي العام وقيادته نحو التغيير إلى الأفضل، فضلاً عن درجة الوعي لدى النخب الحاكمة التي تتيح مساحة من الحرية وتستجيب لمطالب التغيير والإصلاح.
في الأنظمة المستبدة والفردية يصبح التغيير أمراً صعباً ومعقداً بسبب تدمير وإفساد حواضن التنشئة والتربية الثقافية، التي ينشأ فيها الفرد، وصولاً إلى تضييق مساحات الحرية أمام النخب والمفكرين والمثقفين والقدوات الذين تفتح أمامهم السجون، أو يتعرضون للعقاب والتدمير والتشويه بصور سلطوية مختلفة.
وما هو أهم، فإن السلطة الفاسدة تسعى إلى إفساد المجتمع أيضاً، لتتقي بذلك أية محاولة للنهوض أو التغيير من داخله. وفي مجتمعاتنا ودولنا النامية هناك عوامل خارجية أيضاً تساهم بصورة سلبية في جعل التغيير والإصلاح العام ممنوعاً بصورة أو بأخرى.
لا ننسى أيضاً دور وسائل الإعلام التي تضخ آلاف المعلومات والقصص التي تؤثر في كل بيت وفي ترتيب أولويات الناس عادة، وتحدد اهتماماتهم بالصورة التي تريدها السلطات أو المخرج أو الممول، ولا توجد في الواقع وسائل إعلام حرة ومستقلة إلا في الحد المحدود للأسف.
أما وسائل التواصل الاجتماعي – وهي الأكثر انتشاراً وتأثيراً اليوم – إذا لم تلعب الثقافة دور الضابط والموجه الإيجابي لما ينشر فيها، فإن المسألة تتحول إلى فوضى لا تنتج إلا الفوضى، وإلى ما لا نهاية.
إذن، الثقافة هي عمود مهم من أعمدة التغيير في أي بلد أو أمة، فإذا كانت الثقافة سلبية فإننا سنحصد الدمار والخراب، وإذا كانت إيجابية فإننا سنحصد التطور والتقدم على كافة المستويات، لذا فإن علينا إصلاح الفرد وإعداده بصورة جيدة وتوعيته وتثقيفه ليكون صالحاً ومساهماً في خدمة التغيير والخير والصلاح، ورفض الظلم والفساد والباطل أينما كان. علينا أيضاً الاهتمام بالمبدعين والمفكرين والحفاظ عليهم، وتأهيلهم بصورة ممتازة تمكنهم من الإنتاج وتحويل مشاريعهم وأفكارهم إلى حالة إلهام إيجابية للناس.
الثقافة والحرية صنوان لا يفترقان أيضاً، وبهما يتحقق الإبداع والإلهام، ويحدث التغيير المنشود في المجتمع والدولة والأمة.
ما فائدة التثقيف والتوعية الثقافية إذا لم يكن هناك إنتاج ويكون هناك تغيير وتقدم وتطور؟! سيصبح الأمر وكأننا نحرث في بحر، مع العلم أن الوصول إلى التغيير الأفضل هو عملية تراكم ثقافي ونضالي وتجارب، إن جاز التعبير.