الساعة الثانية فجرا، لا يسمع في المستشفى غير حفيف الأكسجين المندفع بقوة إلى أفواه ضحايا كورونا، وطنين اسطوانات الأكسجين التي تنقل في الممرات بين فارغة وممتلئة، داهمني التعب والارهاق كطبيب يقدم خدمة لثلاثة أضعاف ما يجب من المرضى فوضعت ظهري مستلقيا على أرض المستشفى وغفوت بشكل لا إرادي من شدة التعب، نهضت بعدها وهرعت نحو غرفة العناية المركزة، حيث يرقد مرضى تحت جهاز التنفس الصناعي بعد أن سلموا أرواحهم لنا فليس لهم إلا رحمة الله ثم ضمير الأطباء وأمانتهم، لا يقلقهم شيء سوى قصة وفاة مريضين قبل أشهر سلموا أنفسهم وأرواحهم لمن لا يعرف الرحمة ولا يكترث لحياة الناس، عندما انطفاء مولد الكهرباء ليموتوا اختناق وترتفع أرواحهم إلى بارئها، ربما قد اطمئنوا الآن بعد أن طويت صفحة اولئك الفاسدين، لكن لن يزول تخوفهم بهذه السرعة وهذا أمر بديهي.
دخلت غرفة العناية المركزة وإذا بالدكتور جهاد محمد احمد(مدير مركز العزل سابقا ومدير مستشفى الضالع المركزي حاليا) يحمل سماعته ويمر على المرضى واحد واحد، لم أكن لأصدق المشهد لو لم أكن أعرف من هو هذا الرجل، تساءلت حينها أي طاقة وأي دافع يحمل هذا الرجل على عمل كل ذلك كوني أعرف أنه لم يزر عائلته في عدن منذ شهرين، ورغم إصابته حديثا بالفيروس، لا شك أن هناك دافع لا يعرفه هواة المادة ممن يلهثون وراء مصالحهم الخاصة وما أكثرهم.
وأتذكر موقف طريف…
مريض خمسيني يدعى صالح قحطان، ميسور الحال، اتيت لأبشره ذات يوم أن رئته قد تحسنت بعد أن ترقد لدينا لأكثر من أسبوع، واضفت(سوف تكون بين أهلك خلال اليومين المقبلين باذن الله)، عدت في المساء لاعاينه فوجدته وعلى محياه علامة الزعل مني، ولا يتحدث معي، سألت ابنه عن المشكلة فأجابني ضاحكا أنه غضب بسبب كلامي بقرب خروجه من الحجر الصحي وعودته للمنزل، أمر غريب!!، إذ كيف يرفض أحد الخروج من المحجر في الوقت الذي يهرب الناس في أنحاء العالم من هذه الأماكن ذات السمعة المخيفة. دفعني ذلك للذهاب إليه لاعتذر منه لسوء الفهم……وهنا المفاجأة، يجيب الشيخ صالح قحطان( ياولدي انا تعبت كثير وتبهذلت في المستشفيات الخاصة بالرغم أن حالتي المادية كويسة، لم اجد خدمة طبية وعانيت كثير لعشرة ايام قبل مجيئي إلى هنا، وعندما وصلت إلى هذا المكان وجدت ملائكة الرحمة الذين كنا نسمع عنهم والعناية الحقيقة والآن احببت المكان والأشخاص ولم أعد ارغب في المغادرة، كما أنني أخشى أن أخرج من هنا وأنتكس مرة أخرى واعود ولا أجد سرير هنا)…
خبروا من لا يملك الضمير، أن للصحة في الضالع ضمير حي يتمثل في فريق العزل العلاجي وقائدهم الطبيب الإنسان جهاد ياقوت( مدير مستشفى الضالع المركزي)، واخبروا قادة الشعب أن الكيل قد طفح وان ما تبقى من النظام الصحي في الضالع هو في الحقيقة ما تبقى من كرامة أهلنا وأن الصمت لن يطول…