أفسد الحوثيون على هواة التخمين ومحبي صناعة التنبؤات متعة محاولة رسم مقاربات لما دار بينهم وبين الأشقاء في المملكة العربية السعودية من خفايا ومناقشات، ومحاولات التمهيد لعقد صفقات سياسية قادمة على طريق ما يسمى بالتسوية الشاملة وإخلال السلام الشامل في اليمن. فلم يمض يومان على عودة الوفد الحوثي من الرياض، بعد لقاءات تبين إنها كانت ودية وسادتها أجواء المجاملات وإبداء الرغبة للتوجه نحو انفراج الوضع المتوتر بعد حرب ثماني سنوات ونيف، والاتجاه نحو بناء علاقات جديدة بين الطرفين، وصدور بيانات وتصريحات تعبر عن الرضى والتفاهم، أقول لم يمض يومان على كل هذا حتى عاد الحوثيون إلى عادتهم المألوفة القائمة على استعرض القوة والتهجم اللفظي وتهديد من يسمونها بدول “العدوان” والحديث عن تلقين العدو الدروس وتحويل منشات النفط السعودية إلى حرائق وأبو ظبي إلى بلقع وناطحات السحب إلى غبار. في العرض العسكري الذي أقامه الحوثيون في ذكرى “ثورتهم” على الشعب والتاريخ استعرض الحوثيون مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وفيالق من العسكريين، وقال وزير دفاعهم “إن السلام لن يتحقق إلا بفرض معادلة عسكرية رادعة تجبر العدو على الخضوع لكافة المطالب المشروعة والعادلة ” على حد زعمه. وقال شاعرهم: قسماُ بالله إن لم تنتهوا وإذا لم تجنحوا للسلم غصبا لنذيقنَّ ســـعوداً بأسنا ونريهم أينا أعنف ضربا وحقول النفط لا بد بأن نفجع الدنيا بها شرقاً وغربا لنعيدنَّ الإمارات إلى غابر الأزمان قيعاناً وكثبا وكأن لم تغنَ بالأمسِ ولا ناطحت أبراجها في الجو سحبا. والحقيقة إن احتفاء الحوثيين بعيد “ثورتهم” أمر مفهوم، وله أسبابه المرتبطة بانتقامهم من التاريخ اليمني ومن محاولة الشعب اليمني الانعتاق من ثقافة تقبيل الركب، وبوس الأكف والإذعان والخنوع لجماعة سلالية عنصرية تدعى الوصاية والطهارة والاصطفاء زوراً وبهتاناً في زمن غزو الكواكب والذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي والثورة الجينية، لكن اللغة التي جاء بها هذا الاحتفاء تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات.
إن الأسئلة التي تخطر على بال كل متابع لما جرى خلال الأسبوعين الأخيرين من لقاءات ومجاملات وبيانات دبلوماسية وتصريحات ناعمة ثم شاهد احتفال الحوثيين ومنطقهم السياسي يمكن أن تتركز في الآتي: – هل كذب الحوثيون على السعوديين من خلال تصريحاتهم الناعمة وأحاديثهم الودية، أم أن تلك التصريحات والأحاديث كانت مجرد كلام بروتوكولي لزوم ما قبل مغادرة الرياض، ومن ثم العودة إلى قاموس الشتائم وموسوعة التهديدات؟ – ثم هل ينوي الحوثيون مواصلة التباحث والتفاوض مع قيادة المملكة، بعد مهرجانهم المحتشد بلغة التهديد والوعيد والشتم والقذف والتجريح، أم إن اللقاءات ما قبل 21 سبتمبر 2023م ستكون آخر اللقاءات، وبعدها يعود الطرفان إلى المواجهة باحتمالاتها ووجوهها المتعددة؟ – وما هو الرد السعودي على ذلك المهرجان الاستعراضي الذي لا تخطئ العين العادية ما يحمله من رسائل تهديد ووعيد وتلويح بالقوة والقول “إن دول العدوان لا تفهم إلا لغة القوة”؟ لا يمكن الظن بأن القادة الحوثيين لا يتقنون فن البروتوكول ولغة المساومات ودبلوماسيات التخاطب فخلفهم تقف المدرسة السياسية الإيرانية التي دوخت كل العالم، بلغتها الزئبقية ومواقفها المتلونة والمتموجة، ولا يمكن التصور أن مهرجان الأمس ومفرداته التهجمية وخطاباته النارية واستعرض القوة بالفجاجة التي رآها الجميع، قد جاء دون علم طابخي السياسات الإيرانية، فما يقوله الابن لا يأتي إلا تعبيراً عما تَلَقَّنَه من أبيه، وليس العكس، وبناء عليه يبرز السؤال: ما مدى تأثير استمرار العنجهيات والعنتريات الحوثية على محاولة التصالح السعودية-الإيرانية التي جرت بعد توقيع اتفاق بكين، وإعادة افتتاح السفارتين وتبادل البعثات الدبلوماسية بين البلدين ؟